تحرُّك الهيئات الاقتصاديّة والنقابات العمّاليّة معاً، والذي أسماه القيّمون عليه "قراراً لوقف الانتحار"، ذكّرنا بأنّ البلد لا يقتصر على الطوائف والطائفيّة فحسب، ولا على حزب الله وخصومه فقط، بل إنّه ينطوي أيضاً على اقتصاد وإنتاج وتوزيع وتصدير واستيراد...

 

وهذه البديهة يبدو تذكّرها اليوم عملاً صعباً، بل بالغ الصعوبة، لا سيّما مع تعطّل الحياة الدستوريّة وما يسمّيه بعض المحذّرين خطر التعوّد على فراغ المؤسّسات، خصوصاً منها مؤسّسة الرئاسة الأولى.

 

فأيّ انتظام حديث للسياسة والاجتماع سيكون إذاً، وحتّى إشعار آخر، مستبعداً. 

 

وبالمقارنة مع مرحلة 1975 – 1982، أي ما بين اندلاع حرب السنتين والاجتياح الإسرائيليّ الكبير وترحيل "منظّمة التحرير الفلسطينيّة" إلى تونس، يُلاحظ أنّ تلك المرحلة سجّلت دفقاً ماليّاً هائلاً على لبنان. 

 

حينذاك كانت "الساحة اللبنانيّة" المسرح الوحيد للحروب العربيّة – العربيّة، لا سيّما منها السوريّة – العراقيّة. وحتّى عندما نشبت الحرب العراقيّة – الإيرانيّة في 1980، كانت "الساحة اللبنانيّة" بطوائفها وقواها المسلّحة مهيّأة لأن تلتحق بتلك الحرب بوصفها امتداداً فرعيّاً لها، الشيء الذي استمرّ حتّى آخر الثمانينات. ولا زلنا نذكر أنّ إيران الخمينيّة درجت على مخاطبة الولايات المتّحدة من خلال الضاحية الجنوبيّة لبيروت وأعمال الخطف التي تنطلق منها أو تستقرّ فيها. وهذا، بدوره، كان يستدعي تمويلاً ينضاف إلى المال الذي تأدّى، حتّى 1982، عن وجود "منظّمة التحرير" في لبنان.

 

أمّا اليوم فهناك حروب كثيرة وضخمة تدور مباشرة أو مداورة في العالم العربيّ، ما بين اليمن وليبيا، مروراً بسوريّا والعراق. وإذا صحّ أنّ هناك إسهاماً لبنانيّاً مباشراً في الحرب السوريّة، فهذا ما يبقى هامشاً ضيّقاً بالقياس إلى تلك المتون الحربيّة العريضة والبالغة الكلفة. ثمّ إنّ الأعباء الماليّة والاقتصاديّة التي يرتّبها النزوح السوريّ إلى لبنان، في مقابل شحّ المعونات العربيّة والدوليّة، تُعدم العوائد القليلة نسبيّاً التي تدرّها المشاركة في الحرب السوريّة.

 

ولئن كان تطوّر كهذا يُفقد لبنان خاصيّة أخرى من خاصيّاته الخدميّة لأزمنة الحروب، فإنّه يحدّ من الدفق الماليّ الذي كان ليهبط عليه في ظرف آخر.

 

والحال أنّ ما يرشح من أخبار الأحزاب والقوى السياسيّة، وكذلك بعض المنابر الإعلاميّة التي تمتنع عن دفع أجور محرّريها ومكافآتهم، أو تسرّح بعض العاملين فيها، لا يفعل إلاّ تعزيز هذه القناعة.

 

فالمطالبة بوقف الانتحار، على ما فيها من حسّ محترم بالمسؤوليّة، تصطدم، للأسف، بكوابح كثيرة وقاتلة. ذاك أنّ الأزمة المستفحلة تترافق اليوم مع انعدام القدرة على تمويهها أو التحايل عليها، على ما كانته الحال في السنوات الحربيّة المنصرمة.

 

وأهمّ من هذا، بطبيعة الحال، أنّ القرار العميق بالانتحار، الذي اتّخذته طوائفنا، يبقى أقوى من كلّ شيء آخر!