كان عمري خمس سنوات عندما استولى حافظ الأسد على السلطة. بعد عام فقط كنت في الصف الأول الابتدائي، ومع حروف اللغة وكلماتها كنا نتعلم حبّ القائد.
في تلك الأيام كانت بلدتي الهادئة كعجوز شكلاً، والمشاغبة كنمر برّي، لا تعرف من الخبز سوى خبز الأفران الخاصة، فتقرر إنشاء فرن فني لإنتاج الخبز "المرقد". لم نكن نعرف نحن الشعب أهمية هذا الحدث التاريخي لولا قدوم محافظ حماه. في تلك الأيام كنا في الصف الرابع الابتدائي، ولأن المحافظ قادم ليدشّن افتتاح الفرن كان لا بدّ من أن نستقبله على أحسن ما يكون. هكذا قررت شعبة الحزب في المنطقة.
دار مدرّس الرياضة علينا. سجل أسماءنا وقال لنا غداً ستكونون في استقبال المحافظ. وبدأ يدربنا على حفظ أغاني الاستقبال الطلائعية من عيار: "أهلا بيكم أهلا بيكم طلائعنا بتحييكم". حفظنا الأغاني والصفقة الطلائعية.
في اليوم التالي وقفنا في رتلين أمام باب الفرن لمدة 3 ساعات كاملة، لم نشرب فيها كأس ماء. كان المدرسون والمدير وشرطة المدينة مستنفرين لاستقبال المحافظ، ممثل الرئيس.
قدم المحافظ. غنّينا وقدّمنا الورود إليه وصفقنا له ولأمين فرع الحزب وللرفاق والضباط. لم ينظر أحد إلينا، كأننا كومبارس تماماً يقع في خلفية المشهد. كنت يومها جائعاً وعطشاً، ربما لهذه الأسباب البيولوجية الطبقية كرهتُ السلطة والرئيس والمحافظ والحزب!
حضرت الدولة يومها إذاً. حضر حافظ الأسد من خلال "الفرن" الحدث الكبير.
في تلك الأيام كان حافظ الأسد هو كل شيء. كانت بعض الأسر التي تمكنت من شراء تلفزيون تتابع نشرة الأخبار. لا يوجد فيها سوى أخبار الرئيس. كانت الناس تشعر بأن "القائد" هو كل شيء، هو المعرفة، الفلسفة، الثقافة، والخوف أيضاً. هو الحاضر دائماً. هو من يحيي ويميت.
أذكر مثلاً كيف أنقذ حافظ الأسد أسرة فقيرة من الفقر المريع ونقلها نحو الفقر العادي، حيث تناقلنا نحن أبناء الحارة الغربية قصة ازدهار؛ المرأة القوية التي ذهبت إلى دمشق وطلبت مقابلة حافظ الأسد، وقيل إنها قابلته وطلبت منه وظيفة "مستخدم" لزوجها، وفعلاً حصل الرجل على وظيفته. حافظ الأسد كان واسطته.
ماتت ازدهار وهي فقيرة وقيل لنا إن سيارة دعستها. وبقي الرئيس.
في مسيرات تلك الأيام التي يأخذوننا إليها كقطعان الماشية، كان الخطباء يقلّدون الرئيس. يحاولون أن يكونوا في هيبته ورعبه وفهمه.
في الثمانينات بدأ "الأخوان" تحركاتهم وتمردهم على حافظ الأسد. عرض يومها التلفزيون، محاكمة واحد من هؤلاء المعارضين. ما زلت أذكر كلماته النارية في المحكمة، وتحديه للقاضي. قال: "سنُسقط حكم حافظ الأسد". يا للرعب! إذاً هناك من يعارض الرئيس، الرئيس الربّ، القائد.
عندما سيطر "الأخوان" على مدينة حماه لمدة 48 ساعة، حسب ما أذكر، كانت مدفعية الأسد تدك المدينة. كنا نسمعها في مدينتنا ونقول في السر: كيف تجرأ هؤلاء على معارضة الأسد؟!
أنهى الأسد التمرد وقتل آلاف الأشخاص من حماه. أذكر يومها أن والدي كُسرت يده، وكانت حماه مغلقة، فأخذناه إلى مشفى حمص الوطني، بجانبه تماماً كان هناك عجوز من حماه قال لنا: لقد دخل العسكر وسرقوا كل ما يملك، وهو ليس حزيناً على أملاكه إنما يريد أن يعرف مصير أربعة شباب اعتقلوهم. والدي الذي كُسرت يده، سمع حكاية حماه من خلال هذا العجوز.
لكن التلفزيون الوحيد الذي يغسل الشعب كله كان يقول: "الحلف الرجعي"، في وصفه "الأخوان المسلمين". يومها صرنا نردد في شعارات المدرسة أننا سنقضي على "الأخوان العصابة الرجعية السوداء العميلة الخائنة".
في حفلات السهر، والسكر وفي المقاهي، كانت الإهداءات والتحيات تُرفَع إلى الرئيس، ولا سيما إذا كان المحتفل عسكرياً، أو ضابطاً أو عنصر أمن. الكل يوجه تحيات إلى الرئيس.
عندما يفعل مناصروه ذلك، ينتشون بالسلطة كأنهم في هذه اللحظة هو.
في سن الـ 18 عندما بدأت حملات الاعتقال لأعضاء جماعة 23 شباط، أي جماعة صلاح جديد، طال هذا الاعتقال أخي الكبير.
بعد ذلك بثلاث سنوات، اعتُقل أيضاً أخي الثاني، العضو في "رابطة العمل الشيوعي". صرت أكره الرئيس، أحقد عليه. وأتساءل: كيف يفعل الرئيس ذلك؟ هل نسي كم هتفنا له في المسيرات الشبيبية؟
15 عاماً وحافظ الأسد تدعو عليه أمي، بالموت والقتل، وأن يفقد أولاده كما فقدت هي أفضل ولدين عندها. أما والدي فكان يشتمه، ويبصق عليه في التلفاز، وخصوصاً عندما يخرج بخطاب علينا. كان أبي لا يسمح لنا بإطفاء التلفزيون من أجل أن يبصق عليه.
في سجن تدمر، عندما سمحوا لنا بزيارة أولى لأخي، كانت صور الأسد تملأ السجن. والدي بدا هادئاً حين فتشه العسكر وفتشونا خشية أن نكون نحمل سلاحاً أو ربما نحمل معنا دبابات!
في تلك الأيام كانت جملته الشهيرة، "لا مكان في هذا البلد إلا للتقدم والاشتراكية"، هي الأبرز في الكتابات التي ملأت الجدران التي شاهدناها في لحظة الزيارة. كان فيصل غانم في رتبة مقدم وهو مدير السجن، مازحه والدي عندما قابلنا، ورأينا أخي حيّا يرزق بعد سنة و8 أشهر.
في سجن المزة، عندما سُمح لنا بزيارة أخي الثاني، كانت الجملة نفسها تملأ جدران السجن: "لا مكان في هذا البلد إلا للتقدم والاشتراكية".
في العام 1987 اجتمع أخواي في سجن صيدنايا القابع فوق تل. كانت العبارة نفسها تملأ جدران السجن، مع صور الأسد.
في الجامعة كان الرئيس حاضراً. تمثاله الشهير في المدينة الجامعية في المزة، عفواً: "مدينة الباسل".
15 عاماً ونحن نزور أخويَّ في السجن، مرة واحدة كل شهرين، ونقرأ العبارة نفسها.
زميل جامعي قال لي: هل ترى قاسيون، إنه مرصوف بالصواريخ، إن خرجت دمشق ثائرة فسيقصفها الرئيس بالصواريخ.
شاهدتُ الرئيس في منامي عشرات المرات. مرة كنت أراه يتناول الإفطار. ما زلت أذكر أنه تناول فقط "حبات عدة من الزيتون"، فتساءلت في السرّ: لماذا رأيته يأكل الزيتون دون غيره من الطعام؟
قال لي شقيقي قبل اعتقاله: بلد يحكمه بيت الأسد ليس بلداً. شعرتُ بالخطر الكبير. كان يقول ذلك في المزة، وعلى الرصيف صورة كبيرة للرئيس. وضعها صاحب بقالية أمام محله.
نعم، هكذا عشنا، وهكذا احتل الرئيس حياتنا: احتلها في الشارع، في المدرسة، في الجامعة، في غرف النوم، في كل مكان. احتلها تماماً حتى أن شكل قصر الشعب الذي بناه فوق قاسيون، كان تعبيراً عن احتلال الرئيس كل شيء في البلد.
في يوم ما، تساءلت في السرّ ما معنى "إلى الأبد إلى الأبد يا حافظ الأسد"؟ هل الأسد هو الله حتى يكون إلى الأبد؟ يومها لم يسمع تساؤلي أحد.
بعد هذا كله، هل تصدّقون أن حافظ الأسد مات؟

 

 

(مصطفى علوش : كاتب سوري )