نزعتان تعطّلان أي مقاربة مجدية وجديّة في الحياة السياسيّة: النزعة التبريريّة، وتلك الغوغائية. كلّ جسم متحرّك في الحياة السياسية يفرز تبريرييه، وغوغائييه. وهذه تكاد تكون طبيعة الأشياء نفسها. المهم أنْ لا تطغى «التبريريّة»، أو ضرّتها «الغوغائية» على سلوك هذا الجسم وخطابه. تتأمّن صحّة أي جسم سياسيّ بالسيطرة على هاتين النزعتين، والنجاح في جعل هذا الجسم يتشرّب تقاليد النقد والنقد الذاتي والتحليل الملموس للواقع الملموس والتحديد الواضح للأهداف البرنامجية ولخارطة الأقربين والأبعدين المتبدّلة بالضرورة. 

هل هذا كلام نظريّ فقط في واقع اللبنانيين اليوم؟ قد يبدو كذلك للوهلة الأولى. لكن ادراك المدى الذي وصلت اليه التبريرية من جهة، والغوغائية من جهة أخرى، يجعل هذا الكلام مدخلاً لازماً للرويّة في المقاربات العملية. 

وفي وضع اليوم، فإنّ التبريريّة الأساسية التي تتهدّد البلد هي عملية تبرير بقائه لأكثر من عام حتى الآن من دون انتخاب رئيس للجمهوريّة. لا يمكن تبرير ذلك بحجّة أن الدستور يلحظ أيضاً كيف يُدار البلد في حالة خلو المنصب الأول في الدولة. بالطبع، للدستور ما يقوله في هذا الوضع، لكن أوّل شيء يقوله إنه وضع غير دستوريّ، ونحن نرى ذلك في كل قضية تطرح، سواء في مسألة التعيينات الادارية، أو في أي أزمة تعترض الحكومة ككل أو وزارة من وزاراتها. لا يمكن حلّ أي شيء بجديّة من هذه المسائل اذا كانت قاعدة النظر اليها اعتبار الشغور الرئاسي مسألة طبيعية، أو استسهال وضعه بين مزدوجين والانصراف الى معاينة المسألة. 

في المقابل، ليس بالغوغائية يتأمن انتخاب رئيس للجمهورية، وليس بالغوغائية تحلّ أي مشكلة حكومية أو وزارية، وليس بالغوغائية يمكن اعادة فتح السبيل لأم المشكلات الدستورية في هذا البلد: انعدام الاتفاق على قانون انتخابي، وعدم حصول الانتخابات التشريعية في موعدها، وتأجيلها مرتين بسبب ذلك. 

كذلك في مسألة العلاقات الخارجية، تجاوز التبريرية والغوغائية يستدعي مساحة من الاعتراف بأنّه، لئن كان كل فريق يتهم خصمه بالتبعية لخارج ما، وكل فريق يعود فيقرّ بأنّ المسألة هي تفاوت في التبعيات في آخر النهار، فإنّه قد آن الأوان لكي يتمّ الاتفاق على مبدأ يمكن أن ينضوي تحته كل اللبنانيين، وهو الاستعادة التدريجية، انما المنهجية، لاستقلال وسيادة لبنان، ولحياديته بين المحاور الاقليمية، مع التزامه تبعات انضوائه في منظمتي الأمم المتحدة والجامعة العربية. أن لا يجد هذا الطرح حتى طريقه الى التداول بين النخب الثقافية والمدنية في هذا البلد قبل تلك السياسية، فهذا بحد ذاته دليل على أزمة التفكير النقدي بإزاء اتساع مساحة التبريرية، السعيدة بموقعها انما على حساب إضعاف هذا الموقع نفسه، أو الغوغائية، التي تفتش عن كبش فداء حيناً، أو يقودها الغلو الى خدمة خصمها، في الوقت نفسه الذي يُزيّن لها أنها تتحدّى هذا الخصم بشجاعة منقطعة النظير. 

الشيء نفسه بالنسبة الى موضوع مكافحة الارهاب. هذا الموضوع ينبغي تحريره من عملية تنازعه بين الطروح التبريرية وتلك الغوغائية. صحيح أن الطبقة السياسية انقسمت حول «الاستراتيجية الدفاعية» ورغبت في التحاور حولها ثم تراجع الحوار، لكن أيضاً، سواء كانت المسألة تدخل «حزب الله» في سوريا، أو عرسال والقتال في جرودها، أو الشرائط المسرّبة عن أعمال تعذيب ارتكبت في سجن رومية، فإنّ الواضح في كل هذا، أن «مكافحة الارهاب» باتت مقولة مستثمرة اما تبريرياً واما غوغائياً، في حين ان مصالحتها مع التفكير النافع والنقدي في آن، يكون بالتزام جادة القانون، وحقوق الانسان. لا يمكن تبرير عملية تنحية القانون والحقوق جانباً بداعي «مكافحة الارهاب»، كما لا يمكن التمييع الغوغائي لخطورة الشبكات العنفية، ولا الاستثمار المذهبي الغوغائي أيضاً لسياسة «مكافحة الارهاب» بوجه شعب بكامله كالشعب السوري، أو بوجه اكثر من نصف الشعب اللبناني لأنها لا تفكّر مثله.

بالنقدية النفعية الباحثة عن زيادة منسوب استقلاليتها شيئاً بعد شيء، وليس بالتبريرية الفظّة والغوغائية الصاخبة تقارب المسائل.