في صيف العام 2012، حين اعترف حزب الله للمرة الأولى بقتاله دفاعاً عن نظام الأسد في دمشق لم تكن "داعش" قد تأسّست، ولم تكن "النصرة" قوة عسكرية أساسية بعد. وكان الحزب يتذرّع بـ"المؤامرة الأميركية الصهيونية" على سوريا، وكان يجهد لتبرير نفيه السابق حصولَ "شيء" في حمص.

 

بعد ذلك، انتقل الحزب من "المؤامرة" الى الحديث عن "حماية المقامات الشيعية المقدّسة"، ثم وجد مطلع العام 2013 ضالته التبريرية في من قال إنهم شيعة لبنانيون عالقون في منطقة وادي العاصي، قبل أن يرسو صيف العام نفسه على مقولة "القتال الإستباقي للتكفيريّين" خلف الحدود. وهي المقولة التي استمرّ بها وأكسبته تأييداً في أوساط لبنانية مسيحية "خائفة"، كما ساهمت في رفعه وراعيته إيران من "لائحة الإرهاب" الأميركية قبل أشهر.

 

وبمعزلٍ عن تهافت زعم قتال "داعش" في سوريا، إذ لا الأخيرة موجودة في بصرى الشام حيث صدّت وحدات "الجبهة الجنوبية" غزو الحزب الشيعي اللبناني والضباط الإيرانيين وحرّرت مدينتها، ولا هي موجودة في حي جوبر الدمشقي حيث المقاومة تحت الأرض وفوقها مستمرّة من قبل شبّان الحي ومن قبل إسلاميين من أهل الغوطة (لا يمكن تصنيف أيّ منهم على أنه أكثر تطرّفاً دينياً من الحزب اللبناني والميليشيات المذهبية العراقية المقاتلة الى جانبه)، ولا هي موجودة في القسم الشرقي لمدينة حلب وفي ريفَيها الجنوبي والشمالي حيث سبق لألوية محلية وكتائب إسلامية أن هزمتها وطردتها من المنطقة أوائل العام 2014؛ كما أن لا أثر لـ"داعش" في محافظة إدلب التي دحر مقاتلوها النظام الأسدي وحلفاءه عن معظمها في الأشهر الأخيرة.

 

وجود "داعش" الوحيد، والمحدود، في مناطق انتشار حزب الله السورية هو في القلمون حيث قتالها لم يتوجّه الى الحزب، بل الى فصائل "جيش الفتح" التي صارت منذ أسبوعين تقاتل على جبهتين، جبهة "داعش" وجبهة حزب الله وبقايا الجيش الأسدي.

 

ولم نعرف عن حزب الله قتالاً حتى الآن في دير الزور أو تدمر حيث تتقدّم "داعش" في مواجهة حليفه. لكن وكما أسلفنا، بمعزل عن هذا التهافت في الزعم، تتحوّل سوريا شيئاً فشيئاً الى فييتنام لحزب الله، الذي دفعته الأوامر الإيرانية وتضخّم غروره الى غزوات متلاحقة بدأت بعد ثلاث سنوات تنهكه.

 

ولعل أبرز معالم الإنهاك هي تصريحات أمين عام الحزب الأخيرة التي شابهت في لغتها ومفرداتها ما كان يُكتب حصراً في بعض الافتتاحيات و"مقالات الرأي" في إحدى الصحف المحسوبة على خط حزبه، أو ما كان يقوله بعض "المعلّقين الاستراتيجيين المُمانعين" على شاشات الفضائيات. 

 

فالتصريحات المذكورة، إذ خوّنت وشتمت وهدّدت وفاضت تناقضات ومغالطات، أشارت الى احتمالات إعلان "التعبئة العامة" في وجه جميع الخصوم "كباراً وصغاراً"، لا سيّما الشيعة منهم الذين أسمتهم "شيعة السفارة"، واعتبرت أن التضحيات المبذولة في مواجهة "التكفيريين" قد تودي بنصف شيعة لبنان أو بثلاثة أرباعهم قبل الانتصار النهائي.

 

بمعنى آخر، بدت التعبئةُ دعوةً لمقاتلين مدجّجين بالسلاح (المُهدى بعضه الى رستم غزالة مرةً، والمشترَك مع "سوريا الأسد" التي أهدته بدورها الى ميشال سماحة مرةً ثانية) لتحضير أنفسهم للانقضاض بشجاعة نادرة على خصومهم (الشيعة) العزّل، أو للفناء في ساحات سوريا الملتهبة.

 

ومن المرجح أن تستمرّ إثارة قضية "التعبئة العامة" وما تختزنه من عنف في المقبل من الأيّام على وقع التطوّرات الميدانية المتسارعة. فلا مأزق الحزب سوريّاً الى تراجع، ولا المعارضون له والرافضون لسلاحه لبنانياً وسورياً سيُسكتهم الصراخ والتلويح بالسبّابات.

 

والمؤدّى أن لبنان مقبل على جولات جديدة من التوتّرات ستحرص خطابات التهديد والتخوين على مدّها بشروط الاستمرار والتفاقم...