ارت مقالتي في المدن في الاسبوع الماضي، ردوداً صاخبة على جانبي خطوط التماس الفاصلة بين حزب الله وخصومه. إذ بدوت متحاملاً على حزب الله في نظر البعض ومجاملاً في نظر البعض على الجهة المقابلة. هناك تعليقات استوقفها، من المقالة عنوانها وما فيه من مبالغة، بل من "تناقض"، بحسب البعض، مع مضمون المقالة،لأنه ،أي العنوان، يحيل إلى انحياز لحزب الله ضد الصحافي داوود الشريان،  (مع حزب الله ضد داوود الشريان) في حين لا تشي المقالة بمثل هذا الانحياز؛ فيما يمكن تصنيف معظم التعليقات الأخرى في خانة ردات الفعل الانفعالية التي تنم عن تعصب لحزب الله وضده، أو عن انحياز للمملكة السعودية وضدها أو لإيران وضدها، وهذا أمر يعاكس رغبتي الواضحة، في هذه المقالة وفي سواها، في تغليب التفكير على الغرائز الحزبية أو التحزبية.

لا أنكر أنني أميل إلى اختيار نصوص وأفكار ومصطلحات استفزازية، لكنه استفزاز للفكر لا للغريزة، والقصد منه تحفيزُ على البحث عن حلول لقضايا شائكة لا ينفع معها الاصرار على الاصطفافات القائمة، وحين تنساق المقالة غير المتحزبة مع تلك الاصطفافات، وتتماهى معها، يفقد الكاتب الصحافي أو الباحث دوره المستقل.

ولا أنكر أن القارئ يميل إلى قراءة ما يدغدغ أفكاره ومعتقداته ويقينياته. أما الكاتب فمن واجبه، ليكون جزءاً من السلطة الرابعة في دولة ديمقراطية، أن يلعب دورا مختلفاً، وأن ينقذ النقاش السياسي بين القوى وعلى الجبهات من عنفه وطابعه الدموي أحياناً، ويعيده إلى حلبة الحوار المجدي بين المختلفين.

غير أن الاعلام الحزبي أو المتحزب في لبنان شوّه دور الكاتب، ومال إلى تحويل الصحافي إلى أداة حزبية تأتمر وتطيع وتصفق، وهذا ليس من شيم الفكر النقدي الحرة. والصحافة تقوم بدورها عموما كسلطة رابعة من خلال ما تنشره من أخبار وتحليلات، وتلعبه بشكل خاص من خلال المقالة. فإذا كانت المقالة متحزبة تفقد دورها التوجيهي والحيادي وتتحول إلى جندي في الجبهة على أحد جانبي خطوط التماس السياسية أو العسكرية أو الإيديولوجية. ليس القصد من الاستفزاز الفكري إيقاع القارئ في فخ القراءة الملتبسة. وكثيرا ما يحدث ذلك كلما اصطدم العقل الحزبي بالحقيقة، والحقيقة دوماً جارحة.

ففي نقد تجربة الحرب الأهلية مثلاً يتساوى في الخيانة من يستنجد بإسرائيل ومن يستنجد بالمقاومة الفلسطينية أو بسوريا ، لأن كلا منهما يكون قد باع نفسه لغير انتمائه الوطني واستقوى بجهة من خارج الحدود الوطنية، وكلما قيلت هذه الحقيقة الجارحة يلتبس الفهم على أحدهم فيرى أن المقارنة هي بين إسرائيل والفلسطينيين وسوريا، فيما هي، في الحقيقة ، بين البائعين اللبنانيين. يغتبط المحازب بالعنوان إلى أن يكتشف أنني مع حزب الله بشروط ، وهو يبغي انحيازاً دائماً له وبلا شروط. ويغتبط خصومه كلما قرأوا نقداً قاسياً إلى أن يكتشفوا أن النقد طال كل من يمول ويرعى الأصوليات في مختلف المذاهب والبلدان، وهم يبغون توجيه النقد لأصولية بعينها دون سواها ولبلد محدد دون الآخر.

ربما لا يعرف الطرفان أن كل كلام حقيقي، أي كل كلام جارح عن الأصوليات، لا ينطلق من آنية الصراع الإيراني الخليجي، فالأصوليات واحدة وإن تعددت منابتها، ولم نقصر في نقد الأصولية اليسارية التي انتمينا إليها، وحسبناها مشابهة لأية أصولية قومية أو دينية كتلك التي تقتتل وتدمر العراق وسوريا، أو تلك التي تخرب بلادها في ليبيا ومصر وتونس. والمقارنة ظالمة حين تكون بين فرد وحزب، على ما ورد في العنوان، وهي ظالمة للفرد لا للحزب، لكنها لا تنطوي على غير رسالة واحدة، يتلخص مضمونها في أننا نحن اللبنانيين، السباقين في الحرف وفي العلم وفي المبادرة، كنا سباقين إلى الحرب الأهلية، وتعلمنا منها أن التطرف ومصادرة الحقيقة والاستئثار بها هي ما يشعل الحروب، وأن الحروب لا يمكن أن تكون سبيلا للتقدم والتنمية، بل هي أقرب الطرق لتدمير الأوطان، وأن الحروب الدائرة اليوم في سوريا والعراق واليمن، إن استمرت معالجاتها بهذه الطريقة، فهي لن تتوقف قبل أن تلتهم ألسنة اللهب الأمتين العربية والاسلامية من محيطاتها إلى خلجانها، وهي ستتوقف يوما ما، وسيجلس المتحاربون للحوار، ولكن حين لا ينفع ندمهم الأصولي، وحين يكتشفون أن المال الذي أُنفق عليها ليس سوى المال الحرام. 

 

(المدن)