في الخامس عشر من شباط 1989 كان «الكولونيل - جنرال» (= الفريق أوّل) بوريس غروموف آخر عسكري سوفياتي يغادر أفغانستان. الرفيق غروموف هذا، عُمّد بطلاً للاتحاد السوفياتي، نسبة للانتصار الذي سطّره في «عملية ماجيسترال» قبل ذلك بسنة وأربعة أشهر، على قوات «المجاهدين/المتمرّدين» بقيادة البشتوني جلال الدين حقاني (وحقاني هذا كان رجل أميركا بامتياز في الثمانينيات، ليتحول، وشبكة حقاني التي يديرها نجله سراج الدين، الى نصير «طالبان» في وجه الأميركيين والباكستانيين على جانبي الحدود). 

لم ينفع انتصار «ماجيسترال» المهم جداً في التاريخ العسكري البحت. بالأحرى، بدأ العد التنازلي المتسارع لسقوط الامبراطورية السوفياتية بعده مباشرة. لكن المنسيّ اليوم، أنّه، في وقت خسرت أميركا، ميدانياً، حربها في فييتنام، فإن السوفيات ربحوها في أفغانستان قبل انسحابهم، بالإذن من كل الخرافة حول «صواريخ ستنغر». وهذا ما يسبب ضيق الصدر وتصلّب الشرايين كل مرة يتذكّر الروس أفغانستان. لأنّ وضعها في سلّة واحدة مع حرب فييتنام ينافي الوقائع العسكرية، ومنها الفوز في «عملية ماجيسترال». أكثر من ذلك، يجنح الاستبلشمنت الروسي اليوم الى التعامل مع هذه العملية، كنصر مبدّد. تبديده سرّع بهدم الجبروت السوفياتي. 

أياً يكن من شيء، لم يسقط النظام الشيوعي الأفغاني، بعد الانسحاب السوفياتي مباشرة. بل صمد في كابول ومعظم المدن الأساسية لسنوات اضافية، وبعد زوال الاتحاد السوفياتي نفسه، وحتى شهر نيسان 1992. وعندما سقط، لم يكن بسبب تغلّب المجاهدين، وإنما بسبب انقلاب الجنرال عبد الرشيد دوستم على حكومة الرئيس نجيب الله. دوستم هذا، المنتمي الى الأقلية الأوزبكية، كان طيلة الثمانينيات، رجل السوفييت بامتياز، وأنشأ لحسابهم ميليشيات موازية في مواجهة المجاهدين، ويعرف في كل العهود بزعيم «سارقي السجّاد». 

هناك ما يغري في المقارنة بين مصير النظامين الشيوعي في أفغانستان، والبعثي في سوريا. ليس فقط انتسابهما الى معسكر «الصداقة السوفياتية»، وازدواجية الطبيعة الحزبية والعسكرية لكل منهما، بل أيضاً، الأسلوب العام لخوضهما الحرب ضد المنتفضين عليهما، وتصويرها كحرب بين «تقدميين» و»رجعيين» على طول الخط، وإدارتها بالحسابات الإثنية، كما لو كنا أمام ادارة كولونيالية لمستعمرة غريبة عنها «عرقياً». مع فارق أنّ النظام السوريّ يسند «ديمومته» بالعصبية الأهلية العلوية، وتحديداً لكبار الضباط العلويين البعثيين في الجيش، وليس الضباط بشكل عام، أو العلويين بشكل عام، أو البعثيين بشكل عام، وان انتفعت كل هذه الدوائر بطبيعة الحال، كما انتفعت القطاعات الاقتصادية التي استطاعت ان تنسجم مع هذه المعادلة، وأن تتقاسم الغلّة، وتتحرّس من البطش بها. هناك أيضاً «قاعدة اجتماعية» للنظام السوري في صفوف نسبة غير قليلة من أبناء الطبقات الشعبية، وهذه كانت أكبر نسبياً مما حققه الشيوعيون الأفغان، لكنها اختزلت كثيراً اليوم. 

صحيح أنّه نسب لبعض قادة «حزب الشعب الديموقراطي» (الشيوعي) في أفغانستان أنهم يحتاجون إلى نصف مليون نفر فقط لبناء الاشتراكية، (ما يعني التضحية بالملايين الآخرين)، لكنّ الدم الذي سفكوه في ما بينهم، أو في مواجهة المجاهدين، لا يقارن البتة، بالحيوية الدموية لنظام الاحتضار الدموي المزمن الذي نجح بشار الأسد في إيجاده، بمساعدة ايران وروسيا في مواجهة الأنسجة الأهلية السورية المنتفضة عليه، (ولا بما سفكته الفصائل المجاهدة بعد سقوط النظام الشيوعي).

وفي نهاية المطاف، عندما سيطر عبد الرشيد دوستم وأحمد شاه مسعود على كابول، لجأ الرئيس نجيب الله الى بعثة الأمم المتحدة واحتمى بها لثلاث سنوات الى ان جرّه الطالبان منها بعد ذلك وسحلوه في الشارع. من الصعب تماماً تصوّر أنّ بشّار الأسد يمكنه أن يلتجئ الى بعثة دولية ويعمّر فيها ليلة واحدة. 

المقارنة بين سوريا وأفغانستان، لها حدودها طبعاً - كأي مقارنة، لا يجوز تطويع كل الوقائع لها. لكنها تفيدنا اليوم في أربعة أشياء، بالحد الأدنى:

أوّلاً، النظام بعد تقدّم المسلّحين في ادلب وجسر الشغور صار أقرب ما يكون الى وضعية نظام نجيب الله عام 1992. مع فارق انه من الصعب تخيّل أي «تمديد في حياة الرئيس السوري الحالي بعد سقوط نظامه»، على ما تحصّل عليه نجيب الله في مبنى البعثة الأممية. 

ثانياً، حالة نظام نجيب الله هي حالة نظام شيوعي صمد لسنوات بعد الانسحاب السوفياتي، وبعد سقوط الاتحاد السوفياتي، في حين ان حالة نظام بشار الأسد مسندة بالتدخل الايراني. وشلّ اليد الايرانية في سوريا ليست «مسألة لوجستية» فقط، لكنها لم تعد كافية للحفاظ على الشكل الذي حققه النظام لنفسه في السنوات الماضية. قد يحتفظ البعثيون بمناطق من البلاد لفترة اضافية، انما كمجرد عملاء للايرانيين و»حزب الله».. ما كان «نظاماً» سيصبح «سرايا مقاومة». 

ثالثاً، حالة انقلاب عبد الرشيد دوستم وقوته الأوزبكية على نظام نجيب الله، لا يبدو - حتى الساعة - ان لها ما يقابلها في سوريا.

رابعاً، ان الحرب الأهلية الطويلة التي دشّنها المجاهدون في ما بينهم بعد سقوط نظام نجيب الله في كابول وصولاً الى سيطرة طالبان، هي «أفق كارثي» لن تتجنّبه سوريا الا بمقدار تفعيل دينامية استباقه والاحتراز منه منذ الآن، وإن يكن ليس أفقاً «حتمياً»، نظراً إلى الإنهاك الأقصى الذي وصلت اليه سوريا.