يعتبر العام 2015 محطة مهمة لقطاع الموارد المائية في العالم. ففي شهر أيلول من هذا العام سيتم تحديد أهداف التنمية المستدامة من قبل المجموعة الدولية، كما أنه في شهر كانون الأول ستستضيف الحكومة الفرنسية المؤتمر المقبل للأطراف المرتبطة باتفاقية الأمم المتحدة الإطاريّة بشأن تغير المناخ UNFCCC، حيث من المفترض أن يتمّ اعتماد اتفاقيّة جديدة لتحلّ مكان بروتوكول كيوتو الذي ستنتهي مدة نفاذه في العام 2020. ويعقد حالياً في كوريا الجنوبية المؤتمر العالمي السابع للمياه، الذي ينظمه كل ثلاث سنوات المنتدى العالمي للمياه، تحت عنوان: «المياه من أجل مستقبلنا".

 

وفي الجلسة المخصّصة للوزراء أعلن وزير البنى التحتية والنقل الكوري أن هذا المؤتمر سيركز على عنصر تنفيذ المقررات الناتجة عن هذا المؤتمر. كما أكد أهمية رسم خطة الطريق التي سيتم خلالها دمج أجندة المؤتمر بأهداف التنمية المستدامة التي تضعها حالياً الأمم المتحدة والتي أصبحت بمراحلها النهائية. وقد نظمت ثماني طاولات مستديرة حملت العناوين التالية: تأمين مياه كافية ونظيفة للجميع، الإدارة المتكاملة للموارد المائية، الترابط بين المياه والغذاء والطاقة، سبل تمويل الحوكمة الجيدة للمياه، ثقافة ـ تربية وتنمية القدرات في قطاع المياه، المياه للسلام والتنمية المشتركة في إطار التعاون في المياه العابرة للحدود، التكييف مع التغيّر المناخي وإدارة المخاطر المرتبطة بالمياه، إدارة مستديمة للمياه والمحافظة على المنظومة البيئية. تمت مناقشة هذه العناوين من قبل الوزراء الحاضرين من أكثر من مئة دولة. وقد تم نشر الوثيقة الرسمية من اجتماع الوزراء، والتي صممت خلال مفاوضات بين الأعضاء الرسميين في الدول استغرقت عاماً كاملاً.

 

الأمر اللافت في إعلانات هذا المؤتمر هو التركيز على أهمية إنشاء البنى التحتية المتعددة الأهداف والمرتبطة بالموارد المائية. إذ، وكما أعلنها رئيس المنتدى العالمي للمياه السيد بان براغا: "في الماضي كانت البنى التحتية لها هدف واحد مثل مراقبة الفيضانات، أو الري، أو تأمين الطلب على المياه، أو تأمين الطاقة الكهرومائية. وأن هذه النظرة لم تعُد مجدية للمستقبل. إذ وجب علينا أن نجد تلاؤماً ما بين الأمن المائي، الطاقة والنقل والتغذية واستعمال الأراضي والمحافظة على المنظومة البيئية". وأكد رئيس المنتدى أن في ظروف العالم المتغيّر سنحتاج إلى بنى تحتية مرنة متعددة الأهداف.

 

العودة الى الماضي

إذا استعرضنا ماضينا في لبنان وأعدنا إحياء أعمال وأبحاث ومشاريع الإنماء التي قدّمها كبار المهندسين اللبنانيين، ومنهم الراحل إبراهيم عبد العال، لوجدنا أنهم وعوا هذه الناحية المعلنة في العام 2015، في مؤتمر دولي للمياه، وأنهم نفذوا مشاريع تأخذ بعين الاعتبار هذا النداء، وإن كانت لا تحمل التسميات الجديدة التي نرددها اليوم.

 

لنأخذ مشروع الليطاني على سبيل المثال. خطّط المهندس عبدالعال مشروعه على أساس بناء البنى التحتية المتعددة الأهداف. هو القائل مثلاً في خمسينيات القرن الماضي: «تجب دراسة أحواض الأنهار كوحدات إقليمية متجانسة بقصد تقصي مختلف نواحيها، توطئة لرسم مناهج تستغلها أحسن استغلال، بحيث تتكامل فيها الحياة الاقتصادية المتعددة من استغلال زراعي وتوليد القوة الكهربائية، إلى بناء صرح صناعي تحقيقاً لأكبر وفر وتفادياً لأية خسارة محتملة في الجهد والمال». إضافة إلى قوله: «الدراسات الفنية للمياه طويلة الأمد وغايتها أن تتوافق النواحي الثلاث لاستعمال المياه، فلا ينظر إلى التجهيز المائي من ناحية واحدة كي لا يعدم مصدراً للثروة في سبيل إحياء مصدر آخر، بل يقوم التجهيز على توفير السبل الفنية لتؤتي المياه منافعها في شتى الإمكانات، وفي آن واحد".

 

وقد درس المهندس عبدالعال حوض نهر الليطاني بكامله ليكون على بيّنة من تحقيق جميع إمكاناته. وكان يؤمن بأن العمل الإنشائي على هذا النهر يثبت كونه مشروعاً إنشائياً تتوافق أكلافه مع اقتصاديات قوّته الإنتاجية.

 

كهرباء وإنماء

كما نعلم، فقد طال الزمن على تنفيذ هذا المشروع الوطني المتكامل. فمن بعد إنشاء ثلاثة معامل كهرومائية على النهر، والتي لم تتوقف أبداً عن العمل منذ إنشائها، بالرغم من الحروب الصهيونية علينا والحرب الأهلية اللبنانية وعدم الاستقرار السياسي الذي لا يفارقنا... كانت هذه المعامل ولا تزال الركيزة والسند لمؤسسة كهرباء لبنان، وهي التي تلبي احتياجات المؤسسة عند ساعات الذروة أو عند قصف إسرائيل لمحطات الكهرباء في لبنان، مثل محطة الجمهور.

 

ولحسن الطالع أُعيد إحياء مشروع الليطاني بمرحلته الثانية المسمى: «بمشروع إنماء جنوب لبنان على منسوب 800 متر لمياه الري والاستعمال المنزلي». وقد تمّ إطلاق هذا المشروع الوطني البالغ الأهمية في شهر شباط 2013. والمشروع يتضمّن نقل مئة وعشرة ملايين متر مكعب من بحيرة القرعون. وهي تسعون مليوناً منها للري وعشرون مليوناً للاستعمالات الأخرى، منها مياه للشفة. ستستفيد من هذا المشروع مئة بلدة من أقضية البقاع الغربي وحاصبيا، مرجعيون، بنت جبيل وصور. إضافة إلى مدّ شبكات ثانوية لري مئة وخمسين ألف دونم من الأراضي بعد استصلاحها. وسيتم توليد الطاقة الكهرمائية في المنشآت الرأسية للمشروع للاستفادة من الطاقة الموجودة في المياه المخزنة في سدّ القرعون على علو 850 متراً قبل تحويل المياه للري على علو 800 متر.

 

وهناك متابعة مستمرة لأعمال تأهيل المنشآت المخصصة لمشاريع الري على نهر الليطاني. ففي مشروع الري في القاسمية على الساحل الجنوبي من صيدا حتى صور والمنصوري يروى 4 آلاف هكتار، ويتم تجديد الأقنية تجديداً كاملاً ضمن خطة خمسية لرفع كفاءة هذه الأقنية، لمنع هدر المياه وتأمين مياه الري للمزارعين بكلفة زهيدة.

 

أما في ما يتعلق بمشروع الري صيدا - جزين. حالياً يتم استثمار 400 هكتار، ويتم تطوير شبكات جديدة لتغطية 800 هكتار. مشروع قناة 900 متر: حالياً يتم استثمار 700 هكتار. إنما ملحوظ استثمار 1500 هكتار ضمن المرحلة الأولى لري البقاع على مستوى 900 متر. والخطة المعتمدة مؤخراً ستزيد بالمساحات المروية، حيث اعتمد توزيع المياه بالجاذبية للمناطق المنخفضة (حوالي 400 هكتار) وتم اعتماد تعرفة مشجعة للمزارعين بخفض التسعيرة في حال استعمال تقنية الري بالتنقيط لتوفير كميات المياه المستعملة، كما اعتمدت تعرفة خاصة لزراعة القمح. أما المشروع المستقبلي، أي المرحلة الثانية، فهو ري 6000 هكتار من بلدة كامد اللوز باتجاه بلدة رياق، وقد أنجزت الدراسة الأولية، وبانتظار التمويل بعد تبيان النتائج الإيجابية من المرحلة الأولى.

 

سدا الشومرية والخردلي

من المشاريع الكبيرة المستقبلية على نهر الليطاني، بناء سد كفرصير الذي سيُسمى سد الشومرية نسبة إلى القرية، حيث سيُبنى السد. إن سعة هذا السد 28 مليون متر مكعب على ارتفاع 150م. انتهت الدراسة الأولية في نيسان 2014. والدراسة التنفيذية في طور مناقصة لتقديم العروض العالمية لتنفيذها. أهمية هذا السد تكمن في تأمين مياه الري إلى القرى الواقعة على ارتفاع 200م. والساحل. وهكذا يكون دمج مشروع القاسمية ليصبح مشروعاً متكاملاً يغطي جميع المناطق المرتفعة وصولاً الى الساحل. مع العلم أن الأقنية والشبكات المضغوطة تؤمن المياه عند الطلب، وبهذا يمكن اجتناب الهدر في المياه. إلى جانب الري تكمن أهمية هذا السد في إمكانية إنتاج 5 ميغاوات طاقة كهرومائية.

 

اما سد الخردلي فتتراوح سعته بين 80 و120 مليون متر مكعب بحسب الموقع الذي سيعتمد بناءً على الدراسات الفنية. وستجرى مناقصة عالمية لإجراء الدراسات الأولية والتنفيذية وقد حدد موعد تقديم العروض في 8 ايلول 2014. وسيؤمن هذا السد إنتاج 10 ميغاوات من الطاقة الكهرومائية... بالإضافة إلى تأمين مياه الشفة والري إلى المناطق الواقعة على ارتفاع يتراوح ما بين 300 و600 متر. إنه مشروع متكامل إذ إنه بعد إنجاز هذين السدَّيْن، بالإضافة إلى سد القرعون، تصبح مياه الليطاني قد ضبطت بالكامل، ولا يعود لبنان متهماً باطلاً بأنه يهدر مياهه إلى البحر.

 

هذا وقد تمّ زرع 250 ألف شجرة في محيط سد القرعون لتأمين بيئة نظيفة، كما تمت إعادة تأهيل مكاتب المصلحة على السدّ التي تمّ تدميرها من قبل العدو الصهيوني، وتمّت إعادة تأهيل المبنى الرئيسي للمصلحة بعد الحرب الأهلية اللبنانية، وإنشاء مكتب في منطقة القاسمية لإدارة مشروع الري.

 

وهكذا يتبيّن لنا أن لبنان وعلى الرغم من التحديات والمصاعب التي يواجهها، لا يزال رائداً في أفكاره وتنفيذ مشاريعه وسباقاً لوضع الخطط بحسب المفاهيم الرائجة دولياً.