في مقالتنا السابقة قلنا إن فكرة "المهدي المنتظر"، بمأزقها اليمني، تطرح سؤالين، "الأول على إيران التي تريد تعميم تجربتها بقوة الجهل والمعتقدات الغيبية والأحلام الأمبراطورية، مع عربة وهمية تشد التاريخ إلى الوراء. والثاني على الخليج الذي يتصرف كأن مصدر الخطر عليه هو "صاحب العصر والزمان" متجاهلاً بصورة تامة كل متطلبات الانتقال إلى عصر الديمقراطية وتداول السلطة.

لئن بدا المأزق يمنياً في ظاهره، خصوصا بعد وصول الحوثيين إلى باب المندب وتفاقم الوضع العسكري واندلاع المعارك في كل المدن بما في ذلك عدن في أقصى الجنوب، إلا أنه، في الحقيقة، مأزق خليجي على العموم، وإلا لما هبت "عاصفة الحزم" بهذه القوة.

هذه حقيقة لا جدال حولها. لكن ما يستوقف فيها هو تشخيص مصدر القلق. فإذا كان مبررا لإيران أن تتصرف "كالسائر في حلمه"، فتبدو لها أحداث اليمن بعضاً من علامات ظهور المهدي المنتظر، فليس ما يبرر للخليج أن يصدق الوهم الإيراني ويتصرف على أساسه.

وإذا كانت فكرة المهدي المنتظر تشكل رافعة إيديولوجية أو دافعاً أو ذريعة لتمدد المشروع الإيراني وسعيه إلى استعادة مجد فارسي قديم، فليس ما يبرر للخليج أن يعالج أحداث اليمن من زاوية الخوف من المشروع الإيراني المبني على انتظار ظهور المهدي في الحجاز.

بهذا المعنى يبدو الموقفان الخليجي والإيراني من أحداث اليمن كأنهما الوجه والقفا لتشخيص واحد للأزمة ولتفسير واحد لأسبابها.

تشخيص وتفسير مبنيان على أمل الانتظار أو على الخوف من الانتظار، فيما التشخيص السليم هو الذي يرى كل ما يحصل من المحيط الى الخليج، بما في ذلك داخل إيران، لا بمثابة أعراض (علامات) لظهور المهدي بل أعراض لأزمة التحول الديمقراطي، التي يحاول أن يتفاداها الطرفان باتفاقهما على هوية أخرى للمعركة غير تلك التي يرسمها مسار التطور التاريخي، أو بتواطؤهما، إذا صح التعبير، على إخراج مجرى التاريخ عن سكته.

التيار المتشدد في إيران يسعى إلى استبعاد أزمة التحول الديمقراطي أو تفاديها، بعمليات قمع داخلي وبافتعال معارك خارج حدود إيران، أو بالمضي وراء يقينيات تصدير الثورة، فيما شكل سعيه هذا مبررا لردات فعل متنوعة ولبروز ثلاثة مواقف داخل العالم العربي، عملت كلها على التملص من موجبات هذا التحول. الموقف الأول تمثل بانحياز قوى من خارج السلطة إلى الخيار الإيراني وتعاونها معه، غير عابئة بما أحدثته من خلخلة داخل الوحدة الوطنية في لبنان والعراق والبحرين وفلسطين واليمن، فيما استند الموقف الثاني إلى تحالف قوى حكومية في كل من العراق وسوريا مع المشروع الإيراني وتعاونها معه في مواجهة ضرورات التحول الديمقراطي الذي رفعت شعاراته انتفاضات الربيع العربي.

أما دول الخليج فقد ظنت أن هذا التحدي التاريخي الموضوع أمام الأمة العربية هو صناعة إيرانية وأن مصدره الإيديولوجي يرقى إلى جذور قديمة للصراع، مستبعدة أي احتمال  لأن يكون قطار التحول نحو الديمقراطية قد بلغ محطته العربية بعد أن دار دورته حول العالم، من أوروبا الشرقية بعد انهيار المنظومة الاشتراكية إلى أميركا اللاتينية إلى إفريقيا وبلدان متفرقة من العالم.  

دفع هذا الظن إلى تصوير الصراع كأنه بين الوهابية والروافض، أو بين السنة والشيعة، أو بين الفرس والعرب، أو بين التكفيريين والمهدويين، ما أخرج قطار التطور عن سكته الطبيعية، وأغرق الحروب المحلية في عبثية مدمرة، وأدخلها في متاهات وسد في وجهها كل احتمالات الحلول... كل ذلك لأن المشروع السياسي الوحيد الذي يحارب تحت رايته المتحاربون هو اغتصاب السلطة عن طريق القوة ثم احتكارها، بعيدا عن أي خطة تنموية أو برنامج لتعزيز الوحدة الوطنية وحماية التنوع الديني والإتني والسياسي، بجميع أشكاله وصوره وتجلياته.

التحالف مع المشروع الإيراني أو مواجهته المذهبية، كلاهما دمر الدولة والمؤسسات في العالم العربي. وحدها قوى الربيع العربي التي صانت نفسها من تحالف مغلوط أو مواجهة مغلوطة من شأنها أن تحافظ على وحدة الدولة والمجتمع. انطلاقا من هذا الدرس المستفاد لم يبق أمام الخليج اليوم إلا الخروج من الكوابيس الإيديولوجية والقومية القديمة المتعلقة بظهور المهدي أو بالأمبراطورية الفارسية، والنظر إلى أسباب الأزمة التي تعاني منها الأمة العربية على أنها أسباب داخلية أكثر منها خارجية، بحيث يتمثل الرد المناسب على التحديات، الداخلي منها والخارجي، بتحصين الوحدة الوطنية داخل كل بلد وعلى الصعيد العربي العام، للحؤول دون تعميم الحروب الأهلية والتجارب المؤلمة التي منيت بها الجمهوريات الوراثية. سبيل واحد يفضي إلى  ذلك، وهو يقضي بمساعدة قوى الربيع العربي على تطوير الأنظمة السياسية والانتقال إلى عصر الديمقراطية وتداول السلطة، وتعميم ذلك على امتداد الأمة من المحيط إلى الخليج. هكذا فحسب لن يجد المهدي مكانا يظهر فيه داخل أوطان العالم العربي.