العراق لن يبقى عراقاًَ بعد الذي جرى فيه في السنوات الثلاث الأخيرة، وسورية أيضاً لن تبقى سورية. هذا الكلام لم يعد افتراضياً، وما يجري على الأرض في كلا البلدين مختلف تماماً عما يدور في أروقة التفاوض من مساعٍ ركيكة لاستئناف ما يمكن استئنافه من تجارب البلدين.

 

 

في العراق انتقلنا، ميدانياً على الأقل، من البحث في نظام فيدرالي إلى خطوات كونفيدرالية. وفي سورية أعلنت ايران عن خريطة نفوذ من المستحيل أن تضم الشمال والشرق وجزءاً من الجنوب.

 

 

على المرء إذاً أن يكون واقعياً. كل ما كان خيالاً ها هو اليوم في طريقه إلى أن يُصبح واقعاً. والحال أن الجميع منغمس في حفلة رسم الخرائط، باستثناء وحدويين لا يريدون مغادرة أوهامهم. فالمحنة كشفت أن التجزئة التي ارتكبتها «سايكس بيكو» لم تكن كافية، وأن الكيانات السياسية المصطنعة، التي نشأت عن مغادرة الاستعمار، كانت فضفاضة. امتحان سريع تعرضت له هذه الكيانات كان كفيلاً باطلاق أحلام التجزئة.

 

 

البعث، بفرعيه السوري والعراقي، كان واحدة من عراضات الوحدة الخرافية لهذه الكيانات. انهار البعث في كلا البلدين، وكان ذلك مؤشراً الى بداية العودة إلى ما قبله. وهنا نلاحظ أن عبارة مصطنع في سياقها السلبي انما صدرت عن وجدان رجعي يُقدم الأصل على الحديث والمستجد. والبعث والناصرية عندما تحدثا عن «الكيانات المصطنعة» انما فعلا ذلك للتخفف مما تمليه عليهما فكرة الدولة (المصطنعة) من أعباء، بالاضافة الى الوظيفة التعبوية لخطاب ادانة الكيانات.

 

 

قبل الاستعمار، لم يكن العراق عراقاً أيضاً، ولم تكن سورية نفسها. إذاً ما الغريب في الأمر؟ ثمة مرحلة انقضت، بعد أن كشفت عن أشكال مختلفة من الفشل. فشل في العلاقة بين الجماعات، وفشل في التنمية، وفي بناء الدولة، وفي صوغ أي تصور عن المستقبل. والأهم من هذا كله فشل في تحويل التجزئة المصطنعة والمفروضة إلى واقع ممكن وإلى أفق قابل للبقاء وللتطور. وهو وإن كان فشلاً عاماً لا تستثنى منه تجربة واحدة من تجارب تلك الكيانات، إلا أن حظ سورية والعراق منه كان أكبر، ذاك أن البلدين منيا بالبعث، والأخير كان قناعاً لعصبيتين أهليتين أقلويتين، تحولتا مع الوقت عصبيتين مناطقيتين ثم عائليتين، وتسلحتا بخرافة الوحدة من دون أن يُبنى أي صرح فعلي لهذه الوحدة.

 

 

لا بل إن الوحدة الوطنية التي كان من المطلوب صياغتها وصناعتها، بدأ القفز فوقها نحو وحدات إقليمية مشحونة بقدر أكبر من الخرافات، وأيضاً من الميول السلطوية الدموية. الوحدة المصرية السورية لم تكن أكثر من رغبة مصرية في الهيمنة على سورية ورغبة سورية في تجنب مواجهة المشكلات الملحّة للبلد، والوحدة العراقية السورية التي لم تتحقق، مثلت أحلام بعثيي البلدين في بناء وتوسيع النفوذ وفي الانقضاض على الحكم وعلى المجتمعات.

 

 

ليس غريباً والحال هذه أن بلدي البعث كانا الأضعف في امتحان التجزئة. فقد كشفت المحنة الأخيرة في البلدين أن خطوة واحدة لم تُخط خلال العهد الاستقلالي لتقميش علاقة بين مكونات الدولة. كانت اللحمة هي السلطة، وأداتها القمع فقط. وما إن انهارت السلطة حتى تداعت المركبات. في العراق اليوم يُمكننا أن نتحدث عن وجدان كردي انفصالي، وعن رغبة سنّية مُعلنة بإقليم سنّي يُعطي ظهره لبغداد ويطمح بعلاقات مع عمق سني خارج العراق، ولعل «داعش» هي الوجه الفظ لهذا الطموح، وان كانوا يكرهون أن تحكمهم. والرغبة الشيعية في عراق شيعي تحولت إلى خطوات ميدانية، ذاك أن المحافظات الشيعية في منطقة الفرات الأوسط باشرت التوسع غرباً محدثة تحولاً ديموغرافياً تهدف من خلاله إلى تثبيت حدود فيدراليتها أو كونفيدراليتها، كما أن محيط بغداد السني بدأ يتعرض لـ»غزوات» «عصائب أهل الحق»، وهم أيضاً الذراع المذهبي الفظ للمشروع الشيعي هناك، بهدف إحداث تبديل في هوية العاصمة.

 

 

ولهذه الخطوات الميدانية تعبيرات سياسية معلنة. الأكراد قالوا إنهم يريدون أكثر من فيدرالية وأقل من استقلال. السنّة العرب يُطالبون بجيش مستقل يتولى إنشاء سلطتهم في محافظاتهم، ويتولى أيضاً درء الخطر الشيعي الداهم. صحيح أن الشيعة يتخبطون في السلطة التي في أيديهم، لكنهم مجمعون على أن العراق الذي يريدونه يجب أن يولي وجهه إلى ايران. وفي سبيل هذه المهمة أرسلوا أيضاً «عصائب أهل الحق»، ذراعهم المذهبية التي يكرهونها، إلى بعقوبة التي تعتبر عقبة سنية تتوسط طريقهم إلى الحدود مع إيران.

 

 

أما سورية فبعثها لم يكن أقل كرماً في زرع القسمة وفي انتاج ضعف القابلية للاندماج في الكيان المصطنع. فحتى الحرب الدائرة اليوم في المناطق السورية المختلفة، هي حروب متعددة، وليست حرباً واحدة. حرب حلب مستقلة تماماً عن حرب دمشق، والأولى والثانية لا يربطهما شيء بحرب الرقة وحرب دير الزور. أما كوباني فحربها نأت بنفسها بعيداً جداً عن كل حروب سورية.

 

 

النظام نفسه يُحارب في حلب لتدمير المدينة التي لا أمل له في أن يحكمها حتى لو أعاد احتلالها، وفي دمشق لتثبيت المدينة عاصمة لـ»سورية المفيدة»، وفي دير الزور خاض حربه من أجل النفط، وفي حمص لإجراء تغيير ديموغرافي. وجميع هذه الحروب لا تلتقي إلا عند طموح واحد هو إخراج كل المناطق التي تقع خارج «سورية المفيدة» من مستقبل سورياه.

 

 

والإيرانيون بدورهم يبدو أن سورياهم تختلف قليلاً عن سورية بشار الأسد، ذاك أنهم يريدون أن يضموا إليها منطقة القنيطرة، وما الحرب الدائرة اليوم بينهم سوى واحدة من أطباق هذه الوليمة.

 

 

لا يبدو أننا حيال مولود واحدٍ خلفه انهيار البعث، ذاك أن الانهيار لم يكن الحدث الوحيد خلال هذا العقد. الوثبة الايرانية حدث أيضاً، والانكفاءة الأميركية، والهزيمة السريعة للاخوان المسلمين، هذه كلها عوامل تُعقّد رسم الخريطة المقبلة. لكن الأكيد أننا حيال سورية أصغر من تلك التي منحها «سايكس بيكو» للسوريين، وحيال عراق بلا كردستان وبلا الموصل والأنبار. هذا على أقل تقدير. وهذا ما يقوله كثيرون من السياسيين، وما باشره بعضهم.