انعقد أوائل هذا الشهر مؤتمر لافت في عنوانه وأعماله، حيث عمل المشاركون فيه على البحث في قضية "العنف في الأديان الإبراهيمية" شارك فيه مجموعة باحثين نقـّبوا في بطون الكتب، وقدموا تصوراتهم حول هذه القضية، وغاصوا في النقاش متناولين نقاطاً حساسة في الفكر والنص الديني، وصولاً إلى الاستنتاجات والتوصيات.

وقد شكلت كلمة الدكتور محمد سلهب في المؤتمر وقفة هامة، جمعت بين الإطلالة على الفكر السياسي الحديث، وبين ثوابت الرؤية الإسلامية بأبعادها السياسية ودعائمها الأخلاقية، وكشفت جملة مقاربات، تستدعي المزيد من النقاش في كيفية فهم القواعد الدينية، ليس باعتبارها معادلات جامدة، بل باعتبارها منطلقات لإدارة الحياة وفق مفاهيم الرحمة والسلامة والحرية والتعاون، وهو ما نحتاجه اليوم في هذا الزمن العاصف بكل رياح الظلم والاستبداد والحقد والضغائن المستنسخة من خزائن التاريخ..

عرض الدكتور سلهب ثوابت الإسلام الأخلاقية المفضية إلى فضائل السياسية، وقدّم ثوابت السياسة المفضية إلى مكارم الأخلاق، كثنائية متلازمة لا يمكن فصل أحد جناحيها عن الآخر، فأعطى للإسلام صورته البهية وقدّم النموذج الممكن والمتاح، في زمن تأخذنا فيه الوقائع إلى بعض أسوأ المشاهد وأقساها وأكثرها تشويها..

وقائع المؤتمر

اقام مركز الدراسات والابحاث الأنتروستراتيجية بالتعاون مع مركز الالتوثيق والابحاث الإسلامية المسيحية في جامعة القديس يوسف المؤتمر المسيحي الإسلامي الثاني تحت عنوان "الأديان الإبراهيمية والعنف" في مطعم القرية السياحي – الصرفند بحضور شخصيات دينية وعلمية وأكاديمية وبمشاركة الجامعة اللبنانية الفرنسية والجامعة الامريكية للتكنولوجيا وجامعة الحضارة العالمية .

افتتح المؤتمر بالنشيد الوطني اللبناني وكلمة لرئيس أساقفة أبرشية صور المارونية المطران الدكتور شكر الله نبيل الحاج، وكلمة رئيس الجامعة اللبنانية الفرنسية الدكتور محمد سلهب، كما ألقى كلمة المركز والمؤتمر مدير الجامعة الامريكية للتكنولوجيا الدكتور محمد الغول.

بعد كلمات الافتتاح عقدت الجلسة الاولى برئاسة أستاذ الأديان المقارنة في جامعة السوربون البروفوسير لويس صليبا وتعاقب على القاء المحاضرات العلامة المونسينيور بولس فغالي الذي تحدث عن العنف في التوراز و التلمود, والاخت الدكتورة باسمة الخوري التي تساءلت عن العنف في العهد الجديد.. تلتها الدكتورة بتسا إستفانو التي تحدثت عن العنف في المسيحية وسوء فهم معنى الملكوت.

بعد إستراحة الغداء، عُقدت الجلسة الثانية برئاسة أستاذ العلوم الإسلامية في جامعة القديس يوسف القاضي الشيخ الدكتور محمد النقري وكان البحث الاول للمفكر المغربي عبد العالي العبدوني الذي تحدث عن اللحظة الديونيزية _ محرك العنف في العالم في الالفية الثالثة، ثم القى الشيخ الدكتور محمد حجازي محاضرة بعنوان عصبية العنف في العقل الجاهلي وسماحة الإسلام، ومن ثم الباحث وسام دندشي الذي أشار في محاضرته على دور التعليم المدرسي في دفع العنف، ثم تحدث مدير جامعة الحضارة العالمية في واشنطن الدكتور مالك نصر عن تقييم المؤتمر والتوصيات .

وفي النهاية توجه المشرف العام على مركز الدراسات والأبحاث الانتروستراتيجية الشيخ مازن بكري الى الحاضرين ورحب بجميع الحضور ونوه بحضور وفود من مشايخ ورؤساء بلديات عكار، ومن جبيل وزغرتا وجبل لبنان.

أكد بكري في كلمته أن المركز انطلق من الايمان بالوطن والمواطن وتبنى مشروع دراسة وطنية للبحث في ضوء العلوم الإنسانية على قاعدة محاصرة العنف ونبذه بالتعاون مع الجامعة اليسوعية والجامعة اللبنانية الفرنسية.وفي الختام، وزعت الدروع التذكارية وشهادات التقدير للحاضرين .

الدكتور سلهب في الافتتاح:

انما يثبت على الخلق الفاضل من كانت به فضيلة الشريعة القرآنية

نص الكلمة:

يسعدني ويشرفني أن أشارك اليوم حفلكم الكريم بحضور شخصيات دينية وعلمية وفكرية وجامعية مميزة لافتتاح أعمال "المؤتمر المسيحي الإسلامي الثاني" والذي أعطيتم له عنوان: "الأديان الإبراهيمية والعنف".

والموضوع، بلاريب، بغاية الأهمية، خاصة في أيامنا هذه، في مطلع هذا القرن، يحرّك ضمائرنا وإيماننا، وهو على ذلك شائك ومتشعب. ولست هنا كباحث أو كخبير في المسائل الدينية، انما بداعي المسؤولية الوطنية والتجرّد العلمي والايمان العميق.

وقد تكون العبرة في عنوان مؤتمر اليوم، هي في حرف العطف، وهو يربط أصولا" لها كياناتها من جهة، وظاهرة، أي العنف، التي قد تتخطى الارادة والانسان من الجهة المقابلة. ومهما يكن من أمر فإن هذا العطف قد يكون أيضا حجر زاوية لمعرفة ماهيّة الأمور التي تشغلنا. فهل هو يرجعنا الى علاقة ارتباط عضوي أو جوهري بين الدين والعنف؟ أم أنه مجرّد علاقة ترافق أو تزامن ظرفي؟ أم أنّه علاقة تناقض وتنافر بل علاقة معالجة ونسخ؟

فهل العنف هو في الأديان الإبراهيمية؟ أو بين الأديان الإبراهيمية؟ أو مناهض للأديان الإبراهيمية وبالتالي تكون هي مناهضة له؟

 فأن الردود على هذه الأسئلة تكاثرت واختلفت عبر الأزمنة. فإذا كان العنف في الأديان، أفلسنا، والحالة هذه، بأشد الحاجة الى ما دعا اليه الأب الفاضل جوزف قزي في كتابه المميز "تبرئة الله"؟

وكم من مقولة راجت وضج ضجيجها وكم من مواقف متطرفة، تدعنا نتساءل وإن كنّا نتكلّم عن الشأن ذاته. أم أننا نجتزء و نخلط بين مبادئ قانون عام وأحكام الظرف والخاص. أو ليس هذا الخلط هو مايؤدي بنا الى الزيغ وفقدان الجوهر؟ أم أن الأديان والعنف هي ناقض لا بل ومنسوخ؟ أوليست وثيقة المدينة، كما تعلمناها وتربينا عليها، واضعة لمواطنية مبنية على الانتماء الى الأرض والمساواة بين أبناء الديانات الابراهيمية؟ 

"وما أرسلناك الّا رحمة للعالمين" ورد في الآية الكريمة، أو ليست الرحمة ناقضة للعنف لا بل ناسخة له؟ أو ليست الآية الكريمة "يا أيها الناس انّا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، ان أكرمكم عند الله أتقاكم"، أوليست هذه الآية الكريمة ناقضة، لا بل ناسخة بمفعول استباقي لثنائية دار السلم ودار الحرب كما نجدها في أزمنة لاحقة لانزال الآية.

أوليس المسلم، كما ورد في الحديث الشريف:" من سلم الناس من يده ولسانه"؟

"ليس عليك هداهم" تقول الآية الكريمة وقد جاء في التفسير أنّها أنزلت حتى يكون لصاحب حاجة سهما" في بيت المال دون الأخذ بأي اعتبار لمعتقده أو دينه أو هداه. وهذا التمييز بين العبادات والمعاملات وهذا التحييد بين ادارة الحاجة والدين، أو ليس هو الأساس الأصل الذي بنت عليه الدساتير الحديثة مبدأ حرية الاعتقاد وتكريس المساواة بين المواطنين؟ واذا كان هذا هو الخط القويم أو ليس ذهاب بعض العصائب والقوميات، أو بالأصح بعض النظريات السياسية، بالدولة التي حددتها كعامل ربط عنصري أو ديني أو اثني أو مذهبي، وتغليبه على الانتماء الانساني هو أصل الزيغ والضياع؟

"لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" يقول الحديث الشريف، أوليس هذا هو طريق النسخ للعنف ومبتغى الحوار؟

أسئلة كثيرة هذه أقرأها في عناوين مداخلات مؤتمركم الواعد والتي تجعلني أتشوّق للانصات لدروسها ولتلقف عبرها.

واسمحوا لي أن أنهي كلمتي المقتضبة هذه بالاشارة الى ما اعتبره حدثا" علميا" وفكريا" كبيرا" أدين باكتشافه لصديقي الدكتور لويس صليبا، الذي قدّم لي مؤخرا" كتاب "جوامع سياسة أفلاطون (الضروري في السياسة)" لأبو الوليد محمد بن رشد العلامة والفيلسوف الأندلسي الشهير.

اسمحوا لي أن أسرد لكم قصة هذا الكتاب، فقد أراد في البدء أبو الوليد أن يعلّق على كتاب أرسطو "في السياسة". الّا أن هذا الكتاب لم يكن متوافرا" في المكتبة العربية الاسلامية في حينه، فكان أن علّق على كتاب أفلاطون كمدخل للوصول الى غايته، والذي نعرفه اليوم باسم "الجمهورية". ورغم اختلافي على كثير من التحاليل مع مترجم هذا الكتاب، الدكتور أحمد شحلان، من جامعة الرباط في المغرب، الّا أنّه لا بد لي الّا أن أنوّه بأهمية عمله هذا. اذ ان كتاب بن رشد كان قد وضع في أواسط القرن الثالث عشر ومن ثمّ فقدنا كافة النسخ العربية التي حرّر  فيها أصلا". وضاع الكتاب ولم يصلنا منه الّا ترجمة بالعبرية من شموئل بن يهودا الذي يعلمنا أنّه أتمّ الفراغ من ترجمته في شهر تموز 1323 في بلقيري Beaucaire  ، المدينة المسيحية التي تتواجد اليوم داخل فرنسا الحالية.

وبعد أن استعرض فقيهنا وفيلسوفنا أبو الوليد بن رشد أحوال قيام ومسار ومصير المدينة الفاضلة، وكذلك المدن الضالة التي تعقبها، ردّ على سؤال حول السياسات القائمة على الشرائع الدينية وحول علاقة الدين في السياسة أن "لا حتمية في الشؤون الاسلامية" في هذه العلاقة. واكتفى أبو الوليد بختم مقولته عن أهل السياسة بقوله "وانما يثبت منهم على الخلق الفاضل من كانت به فضيلة الشريعة القرآنية"، كما وردت في النص العربي للدكتور شحلان والذي يعلمنا بحاشية أنها جاءت بعبارة "الشريعة التوراتية" بترجمة شموئل بن يهودا ، وقد يكون الأصل في النص الرشدي هو:"الشريعة الابراهيمية".

 ويضيف أبو الوليد " وهم قلّة".

أليست من رسالتنا، نحن المتواجدون في هذا المؤتمر من مسؤولين وتربويين وباحثين ومدرّسين، أن نجهد لتضحي هذه القلّة كثرة؟