لقد نطقت نصوص الروايات المهدوية بأن ظهور الإمام (عجل الله فرجه) سيكون بعد أن تُملأ الأرض ظلماً وجوراً، وقد فسر البعض هذا الأمر بأن ظهوره (عجل الله فرجه) مرتبط بكثرة الفساد والظلم في العالم وأن خروجه (ع ) سيترافق مع كثير من الحروب ومع كثير من القتال والجهاد والمظلومية والإستشهاد ،وسوف يكون لأتباعه ومريدية على هذا الطريق كثير من الهزائم والمآسي والإخفاقات وكثير من الإنتصارات والإنجازات أيضاً ،وهذا يعني أن الله سبحانه لا يريد لتطبيقات هذه الفكرة أن تتم وفق منطق الإعجاز ، إذ لو كانت القضية قضية إعجاز إلهي لما كان تأخر الظهور إلى هذا الوقت، ولما احتاج (عجل الله فرجه) إلى الحرب والمواجهة .

وفلسفة ذلك أن الله سبحانه يريد للأمة أن تمارس مجاهدتها وحريتها واختيارها في إختبارات المواقف لتكون أرقى نضوجاً ورشداً ولياقة لإستقبال المخلص الموعود بحيث لو أنه بقدرته الغيبية والإلهية قد سلب هذا الاختيار من أبناء الأمة، لكان ظالماً لهم (تعالى الله عن ذلك) والله ليس بظلام للعبيد ،فلا بد للناس أن يمارسوا اختيارهم في مصنع الشدة والبلاء والصبر على جمرة الدين والولاء ،ولذلك فإن بعض أهل الإدعاء في زمن الغيبة سيحارب الإمام (عجل الله فرجه) في زمن الحضور المباشر، ولو كانت القضية غيبية، لكانوا مُنعوا من هذه الحرب وذلك الإنقلاب .

وأما التدخل الإلهي فإنه إن حصل، فإنما يحصل في خارج دائرة اختيار الإنسان وليس في محيطه، مثل التدخل الذي حصل في قضية النبي إبراهيم (عليه السلام) حين قال للنار: كوني برداً وسلاماً. لكنه سبحانه لم يمنع جنود النمرود من جمع الحطب، ولم يحبس أقدامهم عن المشي في هذا السبيل، ولم يمنعهم من إضرام النار والاتيان بالمنجنيق، ولا من الإمساك بإبراهيم (عليه السلام)، وحمله، ووضعه، وإرساله إلى النار ، بل اشتعلت النار، وحصل كل شيء أرادوه، حتى اللحظة الأخيرة ثم تدخل الله سبحانه خارج دائرة اختيارهم،وعطّل الأسباب وقال للنار: كوني برداً وسلاماً .

وهذا وجه من وجوه اللطف الإلهي الذي ينبغي أن يكون الإيمان به حاضراً على الدوام لاسيما في زمن الغيبة ومعاناتها، وهذا يعني أن الطريق السوي نحو الإستثمار الروحي والإيماني لفكرة المخلص المرتجى (ع) يبدأ من حيث الإرتباط الصحيح بالله سبحانه وتجليات العقيدة الإسلامية التي تفضي إلى إيمان المسلم بولاية الله سبحانه على هذا الكون وما فيه ، وقدرته ومشيئته ، وانه أيضا يمحو ما يشاء ويثبت وأنه لطيف خبير.

ومن حيث الإرتباط بالله سبحانه تبدا رحلة الإرتباط الروحي بالإمام " روحي فداه " والشعور بحضوره رغم الغيبة وبرأفته الأبوية رغم هذا الحصار والتضييق على المؤمنين .

وعلى طريق هذه العقيدة يتشكل وعيٌ عاقل وسلوكٌ إيماني وإمتلاء روحي وعاطفي يشدُّ المؤمنين في زمن الشدة نحو التعلق بالإمام تعلق السر والمناجاة ولو لم يكن إلى لقائه الشخصي من مرتجى ،وذلك أن مناجاة الحال أرقى من مناجاة المقال ،واللقاء الروحي به (ع) متاح لجميع أيتامه في زمن الغيبة ويمكن للمرء على ضوء هذه اللفته أن يسلّم عليه وأن يخاطبه ويحادثه ويشكو إليه شكاية الولد لأبيه فهو يسمع ويرى لكنه يعطي حظوته ورعايته للصادقين في مودتهم وولائهم وربما أفاض ببركاته عليهم وعلى مجتمعهم وهم لا يشعرون .

أما الذين يكثرون الحديث عن إمام الزمان (ع) ويستغرقون في البحث عن أوراد وعباديات يمنّون النفس بكونها طريقاً إلى لقياه من دون أن تصبغ هذه الروحية حركتهم العملية وسلوكهم الشخصي والرسالي بأجمل السجايا وأنبل العلائم فهؤلاء أبعد الناس عن إستثمار بركاته في غيبته ولهؤلاء جميعاً أقول : أدّوا فرائضكم في أوقاتها وافعلوا الواجب واتركوا المحرم وفكروا بحقوق غيركم قبل التفكير بمشاعركم وفكروا بمشاعر غيركم قبل التفكير بحقوقكم واحصدوا الشر من صدوركم وحينئذ سيأتي الإمام إليكم أو ستشعرون به إلى جانبكم يأخذ بأيديكم في الشدئد ويساندكم فيما حزّ من بلايا أو رزايا ..

وإنه لمن المؤلم جداً لاسيما في قلب إمام الزمان ـ روحي فداه ـ أن يكثر الناس من الصلاة والصيام والدعاء والدعوة وضجيج الولاء ثم لا يتغيرون في أخلاقهم ولا في طبائعهم ،وماذا يفعل المرء بصلاته وصيامه ودعائه ودعوته وولائه إذا لم يكن إنسانا ، وعلى هذا نقول إن الأهم من حكاية الإنتظار هو حكاية المنتظرين والأجمل من حكاية المنتظرين هو أخلاقهم الإيمانية والسلوكية التي تتجسد في أروع المشاهد وأنبل المواقف .

هذا وسوف يبقى للعلماء أقوالهم وللشهداء دماؤهم وللشعراء وجدانهم وللأدباء أحـلامهم ولأفلاطون مدينته الفاضلة وللمستضعفين في الأرض آلام وأمال على قدر سعة الكون وستبقى أزمة الـحضارة والإنسان والإيمان من دون خلاص حتى يرث الله الأرض ومن عليها .

وهـا نحن اليوم نرى كيف تسير الأمور وتتسارع جـليلات الحوادث رويدا رويدا إلى حيث مشيئة الله ويوم الخلاص للمعذبين في الأرض والمتعبين من جور السنين الطوال والأمر إلى الله يضعه حيث يشاء وربك يخلق ما يشاء ويختار وإليه تصير الأمور ،فهم يرونه بعيداً ونراه قريباً ولتتشابهن علامات الظهور حتى يظن أهل كل عـصر ومصر أنهم في عـصر الظهور وزمن الخلاص .

فاعقدوا قلوبكم على مودته والصدق في معاهدته وحاذروا أن تغزلوا له الولاء ضجيجاً ثم تنقضوه تعرباً وخذلانا ولا تدعوه إليكم قبل أن تخرجوا ما في صدوركم من غل وكراهية وتنافس على الدنيا واصبروا على دينكم وصابروا على صدقكم فإنما جنده أهل الصفاء والتسليم وأصحاب السر والسحر ،فاصبروا وصابروا وأعـدوا له ما إستطعتم من سلامة القلب وطـهارة النفس وعزم الإرادة وإخلاص النية وأعدوا لعدوه وعدوكم مـا إستطعتم من قـوة ووفروا غضبكم ونقمتكم حتى يأذن الله بأمره ..

وإن المخلص الموعود لا يظهر عند موت أحد وإنما يظهر عندما يشاء الله ذلك حتى لو عمّر من في الأرض ألف سنة ،وما دام أمر المخلص بيد الله والله يقضي ما يشاء ويحكم ويمحو ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب إذاً فليكن إهتمامكم بإصلاح أنفسكم ولا تكثروا من تخرص الأقاويل والأماني والتوقيت بغير علم ، وخذوا حذركم ولا تـملوا الإنتظار فـإنه عبادة والله المستعان على ما يصفون بألسنتهم وقد قضى ربكم أن الأرض يرثها عباده الصالحون ،ولا تغالبوا ألأمر قبل أوانه حتى يأتي الله بأمره الذي سينير خفايا الظلام ويظهر أراء العقول ومعدن الألباب وحينئذ يكون الإصطفاء والمدح لكل مؤمن مخلص ممن يختاره الله جندياً مهدوياً على هذا الطريق الجميل ولا يكون ذلك إلا بالتقوى والورع والولاية ومكارم الأخلاق.

وعلى هذا .. فإن أقربكم إلى المهدي أشدكم حباً وأطهركم لبّاً وأسبقكم إلى الخير والمعروف وأكرمكم نفساً وأبيضكم كفا وأحسنكم أخلاقاً وأجملكم معاشرة وخلالا وأصدقكم مودّةً ووصالا وأخفضكم جناحا وأحفظكم أمانة وأصدقكم حديثاً وأكتمكم سراً وأفصحكم في النطق بالحقيقة المرة ولو على النفس وألزمكم للصمت إلا من خير وهدى وأكثركم تحقيقاً لمرضاة الله وتقواه في عباده كلّهم ،

أما فيما يتصل بالمخاوف الرسالية أو الشخصية التي يعيشها المؤمنون اليوم فلا سبيل في مواجهتها إلا بتعزيز الإيمان بالله والثقة به وبما قضاه في كتابه الكريم من أن الغلبة في نهاية المواجهة هي من نصيب الصالحين في الأرض ،ففي الظلام وتحت الضوء وليلةً بعد ليلة تتصرمُ أيامٌ وتولدُ أيامٌ من رحم الكدح والسير التكويني وبين هذه وتـلك ما الدنيا إلا أيـامٌ قلائل ولا راحـة لمؤمن إلا بلقاء ربه معافى من سخطه وغضبه ونردد خلال السير التشريعي مع النبي الأعظم محمد .. إلهي إن لم يكن بك غضبٌ عليّ فلا أبالي فصانعوا وجهاً واحداً يكفيكم كل الوجوه ولا تخافوا في الله لومة لائم أما الخوف من المستقبل فلن يكسره إلا الخوف من الله وحسنُ التوكل عليه وترك الأمر إليه وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين