قبل أيّام قليلة، وبُعيد الضربة الإسرائيليّة في القنيطرة، هطلت علينا الطبيعة صواعق وزلازل وبراكين. على ذلك استعين ببلاغة التقليد الدينيّ وفصاحته ممّا لا يملك مثلَهما النظام الجهازيّ السوريّ، للقول إنّ الردّ آتٍ. استُنطق الكتّاب والمعلّقون كي يُطلقوا العنان لمخيّلاتهم في وصف الردّ المحتّم. استقرّ الأمر، في النهاية، على تحديد هدف استراتيجيّ مهول: إنّه إطاحة اتّفاق فصل القوّات الموقّع في 1974، والمرعيّ كونيّاً. بعد اليوم، لن تصمت المدافع في الجولان كما فعلت طوال 41 عاماً. بعد اليوم، فليبلّط العالم البحر.

 

 

والحال أنّ حافظ الأسد الذي وافق على فصل القوّات آنذاك، دخل إلى لبنان بعد عامين كي يمدّ مفاعيل الاتّفاق إيّاه إلى جبهة «الشقيق» الأصغر. هنا، في لبنان، يراشق بالحجارة عبر طرف ثالث لبنانيّ الغطاء، إلاّ أنّه لا يكبّر الحجر بما قد يرتدّ على استقرار سلطته في سوريّة. وحين غزت إسرائيل لبنان في 1982، وطردت الجيش السوريّ من معظمه، لم يتغيّر العمل بهذه القاعدة الذهبيّة، فظلّت جبهة الجولان كقلب ابن عربي، مرعى لغزلان لا يدين إلاّ بدين الحبّ. يومذاك كان الاتّحاد السوفياتيّ بجبروته يقف وراء الأسد، وكان الأخير يبني «توازنه الاستراتيجيّ» الشهير مع الدولة العبريّة، ومع هذا لم يُمسّ الاتّفاق ولم تتحرّك جبهة الجولان. والسلوك المطواع هذا هو تحديداً ما تسبّب بالوصف الذائع الذي التصق بالأسد من أنّه يفي بالتزاماته وتعهّداته. وهو، في واقع الأمر، لو لم يفِ لما حكم 26 سنة أخرى، ولما تمكّن من توريث نجله الحكم من بعده.

 

 

ووسط الضوضاء والكلام المنتفخ، حاول وزير الإعلام السوريّ أن يعيد الاعتبار للتقليد الأسديّ. هكذا قال عمران الزعبي إنّ «ما يجب أن تدركه حكومة إسرائيل هو أن كلفة المحافظة على الأمن الإقليميّ أقلّ بكثير من كلفة انفلات الأمور من عقالها وتطوّرها على نحو سلبيّ».

 

 

لكنّ إيران و»حزب الله»، صاحبي اليد العليا في سوريّة اليوم، آثرا التحدّث بلغة الطبيعة، وإن استعارا من القاموس القديم اختيار الزمان والمكان الملائمين، أي اجراءات التحكّم بالطبيعة وضبط أفعالها الهائجة.

 

 

مع هذا، فإنّ ما لم يفعله حافظ الأسد يصعب أن تفعله إيران، التي تفاوض الدول الغربيّة حول ملفّها النوويّ. وفي أغلب الظنّ تسري هذه الصعوبة على خصوم روحاني الراديكاليّين. فهم، وإن كانوا يريدون تخريب التفاوض مع الغرب، يعلمون أنّ فتح جبهة الجولان يخرب كلّ شيء، لا التفاوض فحسب، طارحاً على المحكّ أوضاع سلطتهم في طهران ذاتها. ومن دون إيران، يستحيل أن يقدم «حزب الله» على قرار هذا حجمه، هو الذي كان يعدنا بالردّ على اغتيال عماد مغنيّة لحظة اغتيال نجله الشابّ.

 

 

لقد سبق لبعض راديكاليّي اليسار أن قالوا: «كلّ الحقيقة للجماهير» و»الحقيقة دائماً ثوريّة» فيما كانوا يكذبون على «الجماهير». لكنْ نادراً ما بلغت الاستهانة بالعقول ما بلغته اليوم، بحيث لا يستغرق التهويل بإعلان تاريخيّ كفتح جبهة الجولان أكثر من يومين، يومين يغطّ الجميع بعدهما في نوم عميق!