تقصّد العماد ميشال عون في مقابلته الأخيرة أن يثبت بالحرف والكلمة، أنّه لم يكن يمزح حين فتح صدر دارته البرتقالية للخصم التاريخي، سمير جعجع، ليفلشا سوية كتاباً لا يزال مغلقاً على غباره. وأنّ ترحيبه بالرجل من على منبر الرابية لم يكن زلة لسان أو مزايدة جرّ إليها قسرياً، وإنّما الرد الإيجابي حصل بقرار ذاتي أملى عليه مسايرة الآتي من القلعة الكسروانية بمبادرته، التي بدأت بمزحة عابرة للاصطفافات، وصارت جدّية...
هي لم تكن مزحة بما تعنيه الكلمة، بل كانت شيئا من الهروب من رفاق الدرب، باتجاه خنادق الخصوم، حين قرر «تيار المستقبل» أن يقلب الطاولة ليحرك مياه الرئاسة الراكدة، ويبدأ حواراً غير تقليدي مع «مقاتلي الضاحية الجنوبية يفترض أن ينطلق مطلع العام المقبل».
اختار الحكيم لغة مغايرة ليُسمع حليفه من خلال خصمه، أنّ المسيحيين، والموارنة تحديداً، هم «أم الرئاسة وأبوها»، وهم من يقررون فيها، حتى لو جلس قادة الأطراف الإسلامية على طاولة ثنائية، فهذا لا يعني أنّ بمقدورهم الحل والربط، إذا لم يمنح الموارنة بركتهم لأي طبخة رئاسية قد تطبخ بعيداً عن أنوفهم.
طرق جعجع أبواب الرابية، فجاءه الردّ إيجابياً.. «زيادة عن اللزوم». هي لعبة المزايدات نفسها التي لا يخطط لاعبوها كثيراً إلى أين ستحملهم، وإذ بها هذه المرة تحمل «رأسَي الموارنة» إلى أحضان بعضهما البعض. لم يعتقد جعجع أنّ ميشال عون قد يلاقيه بيدين مفتوحين، لا سيما أنّ تاريخ التجارب بينهما ليس مشجعاً، كما يشكو العونيون دوماً. لكن الجنرال التقط الطابة وقرر اللعب في ملعبه.
بتقدير بعض المتابعين، أنّ معراب لم تكن لتتوقع من خصومها البرتقاليين أن يشرعوا أبوابهم لحوار لا يعتقد ناس الطرفين أنّ النجاح سيكون من نصيبه، لا سيما أنّ دربه ليست معبدة بالورود. بين الفريقين الكثير من مسببات التعطيل والإعاقة، والكثير من التمايزات والحسابات التي تملي عليهما الاستمرار في سياسة «القط والفأر».
ومع ذلك، قد تكون المحاذير من سحب بساط الرئاسة من تحت أقدام الموارنة، هي المحفّز الأول لالتقاء الرجلين، حتى لو ذهب الجنرال بعيداً في حفاوته، حين أكد أنّ بساط البحث لن يكون محصوراً بالاستحقاق الأول، وقد يطال الكثير من الملفات العالقة.
وفق المتابعين، سيلتقط جعجع هذه الإشارة، ليملأ جعبته بالكثير من القضايا التي يعتقد أنّه آن الآوان لإثارتها مع ميشال عون، أو انّها الفرصة لزرع بذورها في الرابية. قد لا يتوانى «الحكيم» عن نبش مسائل دقيقة، كسلاح «حزب الله» ومشاركة الأخير في القتال في سوريا، العلاقة مع سوريا وإيران، ترتيب البيت المسيحي، وغيرها من القضايا الخلافية.
طبعاً، يعرف سمير جعجع أنّ رئيس «تكتل التغيير والإصلاح» لن يبيعه ما رفض وضعه على طاولة المفاوضات مع «تيار المستقبل»، الذي كان بإمكانه أن يقدّم له الرئاسة على طبق الانقلابات على التحالفات القائمة، ولم يفعلها. وبالتالي لن يُقدم عليها أمام خصمه التاريخي وهو يعرف أنّ الثمن المعروض لا يساوي ما كان يمكن أن يُعرض له.
ومع ذلك قد يضرب الحكيم ضربته، على قاعدة علّ وعسى...
والأكيد أنّ الجنرال سيستثمر هذه الجلسة ليعيد إحياء المشاورات مع «القوات» حول قانون الانتخابات وأهمية تصحيح التمثيل المسيحي في هذه اللحظات المصيرية التي يكتب فيها مصير المنطقة وترسم خرائطها من جديد. في أذهان العونيين أن التجربة مرّة مع «القوات»، ولا تزال وقائع مسار الاقتراح الأرثوذكسي حاضرة على ألسنتهم، وتتحدث عن تخاذل القواتيين وهروبهم في اللحظات الأخيرة إلى أحضان «تيار المستقبل» خوفاً من انفراط عقد التحالف معهم.
ومع ذلك فإنّ للقواتيين روايتهم الخاصة التي تقول إنّه في الجلسة الأخيرة التي جمعت سمير جعجع بجبران باسيل في معراب، كان الكلام واضحاً، حيث أبلغ المضيف أنّه إذا تمكنت «القوات» من انتزاع موافقة حلفائها على الاقتراح المختلط، فإنّها ستصوت إلى جانبه على اعتبار أنّه يتمتع بقابلية للحياة وبقدرة أكبر على الحصول على أغلبية نيابية تمكنه من القضاء على قانون الستين. بينما رد الضيف أنّ الأولوية هي للاقتراح الأرثوذكسي، على قاعدة إما التصويت معه أو ضده. وهكذا فرزت المواقف في اليوم التالي وعاد كل منهما إلى خندقه.
بالنتيجة، أثبتت التجربة، في أكثر من مفصل، أن الفريقين مهما حاكا، عن قصد أو عن غير قصد، مساحات التقاء مشتركة بينهما، فإنهما لن يتخليا عن تحالفاتهما ولن يتركا خندقيهما... والبقية تملأ بعض الفراغ.