هل تخرج قضية العسكريين المخطوفين من فضاء خلية الازمة الوزارية الى فضاء آخر لتبدأ رحلة تجربة مغايرة؟

في الايام القليلة الماضية، ومع عودة قضية العسكريين المخطوفين الى النقطة الصفر وتبدد جهود نحو خمسة اشهر من التفاوض غير المباشر لطي ملفهم، ارتفعت في الساحة السياسية اصوات عدة وازنة تطالب بتسليم قيادة الجيش هذا الملف وترك حبل الخيارات امامه متاحا للتصرف به وأخذه على عاتقه انطلاقا من الاعتبارات والوقائع الآتية :
- ان الجيش اولى بتسلم الملف المعقد والمركب لهذه القضية كون غالبية المخطوفين ينتمون الى سلكه وهم خطفوا في اطار معركة كان هو طرفا فيها.
- ان للجانب الامني والعسكري في هذا الملف المساحة الاوسع وهو من اختصاص الجيش الذي ابلى بلاء مشهودا له في مجال ملاحقة المجموعات والخلايا الارهابية ورصدها وايقاعها في الشرك الى درجة انه صار يقيم على كنز من المعلومات ورصيد لا يستهان به من الخبرة والدراية في هذا المضمار خلافا لفترات سابقة.
- ان كثراً يقرون بأن من جملة نقاط الضعف في خلية الازمة المولجة متابعة الملف، التناقضات بين اعضائها وعدم كتمان المعلومات عندما يكون الكتمان والسكوت حاجة ملحة وصحية للقضية، ولم يعد خافيا ان المؤسسة العسكرية صاحبة خبرة في مجال كتمان السر لقضاء الحوائج، وهي تدرك قيمة المعلومة وقيمة الحفاظ عليها وتعي جيدا ان تسريبها احيانا قد يكون لحرقها او لخدمة اهداف سياسية.
- ان كثرا ومن بينهم من هو في عداد اعضاء اللجنة، اشتكوا من وفرة الطباخين مما افضى الى حرق الطبخة، وتكليف الجيش المهمة هو مقدمة لتسليمها الى طباخ واحد ومرجع واحد.
بالطبع ثمة سبب أوجه وابلغ وهو ان هناك حاجة ملحة لتجربة جديدة في مقاربة هذا الملف بعدما اوشك الجميع على الاقرار بانهيار الجهود والتجربة السابقة الممتدة منذ معركة عرسال الاولى في 2 آب المنصرم.
إذاً ثمة اكثر من سبب وداع موضوعي لدى رافعي لواء المطالبة بتكليف المؤسسة العسكرية ادارة الملف يدفعهم الى الالحاح على هذا الطلب، ولكن السؤال المطروح هو: هل تقبل الطبقة السياسية بانسياب هذا الملف من بين يديها ببساطة وسلاسة ومن دون اعتراض او ممانعة تحت حجج شتى؟
طرح هذا السؤال على هذا النحو من الفجاجة يعني لدى طارحيه ان الامر لن يكون بالسلاسة التي يخالها البعض. فقبول السياسيين بنقل الملف من اطار خلية الازمة الى اروقة اليرزة هو اقرار غير مباشر باخفاق مكونات هذه الخلية، وهم الغالبية من مكونات التركيبة السياسية في البلاد على اختلاف توجهاتها، وبالعجز عن ادارة ملف سيادي ووطني عام بالغ الاهمية وضع في عهدتهم قبل نحو خمسة اشهر، وبالقصور عن ايصاله الى نهايات سعيدة على رغم انهم اجتمعوا مرارا وتكرارا، ولوحوا، وفي مقدمهم الرئيس تمام سلام، بان في جعبتهم اوراق قوة لايستهان بقيمتها سيلجأون الى اشهارها واستخدامها حين الحاجة او غب الطلب، وعلى رغم ان بعضهم طرحوا خيارات وافكارا عدة معتبرين اياها الحل المنشود، ومنها على سبيل المثال التفاوض غير المباشر ثم التفاوض المباشر مع "جبهة النصرة"، لا بل ان بعضهم تجرأ خارجا على الرأي العام ليبلغه انه حصل على وعود من الخاطفين بانطواء صفحة الذبح والاعدام للمخطوفين في جرود عرسال القصية قبل وقت من اعدام العسكري علي البزال.
ليس خافيا ان بعض اعضاء خلية الازمة، وفي مقدمهم الرئيس سلام، بعثوا، في الايام القليلة الماضية وخصوصا بعد اعدام البزال، برسائل توحي بانهم باتوا منهكين وعاجزين عن الفعل الحاسم والعاجل ولا سيما بعد انسحاب الوسيط القطري، وانهم في طور الجنوح نحو الاستسلام لليأس، ولكن هذا الامر شيء له حساباته والتخلي نهائيا عن زمام القضية لطرف آخر هو الجيش شيء آخر مختلف له حسابات مختلفة تماما.
فعملية التسليم على هذه الصورة هي في نهاية المطاف تعزيز للثقة بالجيش وترك إمرة التصرف له وحده في هذه القضية الحساسة. وليس خافيا ان ثمة في الوسط السياسي من لا يزال يتحسس من وضع كهذا. اضافة الى ذلك فان لدى بعض الوسط السياسي حسابات معقدة والتزامات مضمرة ورهانات معينة سيصعب عليه اذا ما خرج الملف من خلية الازمة المشارك فيها وانتقل الى ايد اخرى، الوفاء بهذه الالتزامات والافادة منها حاضرا ومستقبلا، اذ لا يمكن ساعتها للبعض رفع لواء المقايضة غير المشروطة او الدعوة الى تكليف جهة بعينها الاضطلاع بدور الوسيط.
ولم يعد خافيا ان الذين رفعوا عقيرتهم بالمطالبة الصريحة بتسليم الملف الى الجيش هم من الفريق الذي لم يكن مرتاحا في الاصل الى المسار الذي سلكته القضية وقت صارت في عهدة خلية الازمة والى طريقة ادارتها، لكنه آثر الانكفاء ولم يكثر من الكلام في هذا المجال لاعتبارات عدة ابرزها :
- يقينه منذ البداية ان الامر سيبلغ مرحلة المأزق الحالي.
- انه نتيجة حسابات عدة لا يمكنه رفع سقف الشروط او فرض توجهات بعينها.
- ادراكه ان الجهات الخاطفة غير جاهزة اساسا لبلوغ تسويات سياسية تفضي الى طي ملف القضية اذ ان ابقاءهم القضية من دون حل يعطيهم هامشا واسعا للمناورة والابتزاز والمتاجرة، واستطرادا التأثير على قرار الاستقرار والاضطراب في البلاد ساعة يحتاجون الى ذلك.
وفي كل الاحوال، فتح الوضع الذي آلت اليه اخيرا قضية العسكريين المخطوفين منذ الاسبوع الماضي الباب واسعا امام احتمالات وخيارات وعروض عدة بديلة، في مقدمها عرض تسليم ملف القضية الى الجيش، وهو عرض ليس بالضرورة ان يجد التأييد الكامل الذي سيجعله نافذا، ولكنه عرض له مبررات ومسوغات موضوعية لجعله قيد التداول والدرس، وعرض يستحق اعطاءه فرصته كاملة، وان كان معلوما ان هناك من يتحفظ عنه ولا يراه ملائما لحساباته وتطلعاته ورهاناته.