تمهيد

يتّفق المسلمون جميعاً على تحريم البِدْعة في الدين، ويرَوْنها خلقاً لطقوس أو عادات أو مفاهيم تُلصَقُ بالدين، ولا علاقة للدين بها. فأيُّ إقحامٍ لما ليس من الدين في الدين يُعدّ عندهم بدعةً، على كلام وتفصيل بينهم في حدود تعريف البدعة، ومعاييرها، ليس هو محلّ نظرنا الآن.

كما يتفق المسلمون في ما يبدو على تصحيح الحديث النبويّ القائل: «كلُّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلُّ ضلالةٍ في النار»، ويرَوْن أنّه يعني ـ في المقدار المؤكَّد من مساحة دلالته ـ البدعة الدينية، أي اختلاق شيءٍ ما ليُعتبر ديناً، في الوقت الذي لا علاقة للدين في واقع الأمر به.

ولستُ معنيّاً هنا بالدخول في الموضوعات الفقهيّة لقضيّة البدعة، والتي عالجتُ قسماً منها في كتابي المتواضع (فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: 411 ـ 431)، بقدر ما أريد أن أقف على مفهومٍ سوف أُسمِّيه: «تحسُّس البدعة وتحذُّرها». وأقصد بهذا المفهوم أنّ الثقافة الدينية التي قدَّمتها لنا نصوص الكتاب والسنّة تسعى لخلق حِسٍّ جماعي يتحسَّس ظاهرة الابتداع في الحياة الدينية. وكأنّ هناك جهازاً يُراد ابتكاره على مستوى العقل الجمعي للأمّة، وهو يقضي بأن يرصد أيَّ ظاهرة بدعيّة ليقوم بتتبُّعها، ويبدي حساسيّته تجاهها. فالتديُّن السويّ هو ذاك التديُّن الذي يستشعر حالات الابتداع؛ لأنّ هذا الاستشعار هو جزءٌ من النظام الثقافي والوجداني الذي يخلقه الدين في الفرد، وفي الوسط الاجتماعي لأنصاره؛ كي يحمي نفسه من خلاله أمام محاولات الابتداع في الدين، والدسّ فيه، والاختلاق، ونسبة ما ليس من الدين إليه، وخلق أعرافٍ وعادات وتقاليد ومفاهيم ومسلكيّات يُراد لها الانتساب للدين، والدين لا علم له بها ولا خبر.

لقد رأينا هذا الحسَّ الديني موجوداً عند المسلمين في مواقع كثيرة، والحمد لله. وقد برز عبر التاريخ مجموعةٌ من العلماء الذين حاربوا ما اعتبروه بِدَعاً في الدين، وتحمَّلوا في سبيل ذلك المصائب، وألوان الطرد والنبذ والتوهين.

وعلى سبيل المثال: الإمام أبو إسحاق الشاطبي(790هـ)، منظِّر المذهب المقاصدي في الاجتهاد الشرعي، والذي يُعتبر من روّاد مشروع محاربة ظواهر البِدَع داخل مجتمعه ومذهبه وقومه، فضلاً عن الآخرين، حتّى ألَّف في ذلك كتاب «الاعتصام» الشهير. لقد نُبِذَ وحورب؛ لأنّه اعتبر ـ سواءٌ قَبِلْنا بما قال أم رفضنا ـ أنّ الدعاء للخلفاء الأربعة وللسلطان في خطبة صلاة الجمعة بِدْعةٌ لم ترِدْ في الدين، حتّى لو كانوا يستحقُّون هذا الدعاء في الواقع، لكنَّ جعله في خطبة الجمعة، وصيرورته سنَّةً يعتاد الناس عليها، في الوقت الذي تكون فيه خطبة الجمعة شعاراً دينيّاً، سوف يفضي إلى عادةٍ دينية جديدة لا أصل لها في الدين من وجهة نظره.

كما رأينا الكثير من العلماء يحاربون العادات المختَلَقَة باسم الدين هنا وهناك، فضلاً عن العادات الأخرى التي يُؤتَى بها غير منسوبةٍ إلى الدين، ولا تكون متوائمةً معه.

من الجميل أن يكون لدى العلماء والعاملين حسُّ التصفية للدين من الإضافات الزائدة عليه دوماً من قِبَل الثقافة الشعبيّة، ولو أدّى ذلك إلى بذل التضحيات في هذا السبيل. إنّ هذا الأمر يحول دون ولادة دين متضخِّم عبر التاريخ، فقد يكون الدين بسيطاً، لكنَّ التهاون أمام مظاهر تضخيمه، وإلصاق العادات والمفاهيم والتقاليد به باستمرار، سوف يؤدّي إلى تورُّمه وإعاقته، ليصبح أنموذجاً آخر من الدين، يُثقل كاهل الناس، ويثقلون كاهله.

ورغم كلّ هذه الإيجابيات في قضية مواجهة البِدْعة والتحسُّس منها، فقد رأينا في الوقت عينه تشوُّهات عرضت على هذا الحسّ الديني الفردي والجماعي؛ أدّت تارةً إلى تفعيله بطريقةٍ خاطئة انعكست سلباً على الدين والتديُّن؛ وأخرى إلى تعطيله بطريقةٍ ذكيّة، وهو ما سأشير باختصارٍ إلى نماذج قليلة منه في النقاط التالية:

أوّلاً: حالات التفعيل الخاطئ لمبدأ «تحسُّس البدعة وتحذُّرها»

هناك عدّة حالات تمّ فيها استخدام مفهوم البِدْعة بطريقة غير سليمة. وسأذكر هنا بعض النماذج الأساسيّة:

1ـ الابتداع بين تصفية الآخر وحماية الاجتهاد، معضلة التوفيق

المشكلة التاريخية والحالية عند بعض المسلمين أنّه يستخدم مفهوم البِدْعة لتصفية الحسابات مع التيّارات الفكرية أو المذهبيّة التي تقع على خلافٍ معه، بحيث إنّ هذا المفهوم (البدعة) أخذ ينحو المنحى التصفوي. فعندما تتَّهم شخصاً بأنّه مبتدِع، أو مقولةً ما بأنّها بِدْعة، فهذا يعني أنّك تعمد إلى تصفية الآخر وحرقه بمثل هذا المصطلح. ومع الأسف فقد تحوَّل مصطلح البِدْعة ومشتقّاته؛ بسبب هذا الاستخدام السلبي له، من بُعده الإيجابي ـ الذي هو الحماية للدين من الإضافة عليه ـ إلى بُعدٍ سلبيّ، تمثَّل في قتل مبدأ تعدُّد الاجتهادات، واعتبار كلّ اجتهاد مخالف لي بمثابة البِدْعة، أو على الأقلّ بعض الاجتهادات التي أختلف معها.

ومضافاً إلى وَفرة تطبيق هذه الحالة بين المذاهب والطوائف الإسلاميّة، نحن نجدها أيضاً داخل التيارات الفكرية. فالمعتزلة مبتدعة عند أهل الحديث والسلفيّة، والسنّة أهل بدعة عند الشيعة، وبالعكس، والفلاسفة مبتدعة عند أهل الأديان والكلام، كما فعلها الغزالي، وأراد تصفيتهم بها، إلى غير ذلك من التطبيقات.

عندما يتحوَّل مفهوم «تحسُّس البِدْعة» من حالة صحّية، يُراد لها الحَدّ من تضخُّم الدين على يد البشر، إلى حالة مَرَضيّة، يُراد لها تصفية الآخر وسدّ باب الاجتهاد، وقتل منافذ العُذر للآخرين، فإنّ فكرة البِدْعة ستصبح كارثةً، بعد أن كانت حماية صحيّة سليمة.

إنّ ما أفهمه من فكرة البدعة هو محاولة الدفاع عن الدين إزاء الركام الملقى عليه عبر الزمن، والذي يزيده ثِقْلاً هو بريءٌ منه، ولا أفهم فكرة البِدْعة بأنّها عنوان تصفوي، أو قاتلٌ لحريّة الرأي والاجتهاد، ولا سيّما أنّ العلماء والفقهاء المسلمين أنفسهم قد أخرجوا من البِدْعة حالات الاختلاف الاجتهادي، إلاّ أنّ تطبيقهم لقضيّة البِدْعة أطاح بكلّ التنظيرات التي وضعوها في هذا السياق، وسنرى كيف أنَّهم طبّقوا المفهوم بطريقةٍ صحيحة في مكانٍ، دون آخر.

وعليه، فإذا أوصلني اجتهادي إلى اعتبار أمرٍ ما بدعةً في الدين فإنّ من واجبي محاربة البِدَع، لكنّ هذا لا يعني إلاّ ضرورة مواجهة ظاهرة البِدْعة بالطرق العلميّة الوزينة التي تحفظ حرمات الآخرين وحقوقهم. فليس كلُّ ابتداعٍ هو خبثٌ قصديٌّ نشأ عند صاحبه، بل قد يكون ناشئاً عن حُسن نيّة، ومع ذلك لزمني محاربته.

ومعنى محاربته ليس فتح النار عليه، بل هي محاولة ردّه بالطرق السلميّة الصحّية الحضاريّة. إنّ الردود العلميّة على هذه الفكرة أو العادة التي أعتبرها بِدْعةً هي بنفسها محاربةٌ للبدعة، ولا يقف مفهوم محاربة البدعة عند أساليب التصفية، والهجوم العنيف، وإعلان الغضب، وأمثال ذلك، خلافاً لما باتت ثقافتنا الدينية المغلوطة تفرضه علينا من الربط والتواشج المزعومين بين محاربة البِدَع من جهة وتصفية الآخر من جهة أخرى، وكأنّ مفهوم محاربة البِدْعة يعني إعلان حربٍ وجهادٍ تسقط في ظلِّهما الكثير من المحرَّمات والمحظورات.

لا بدّ من تصحيح المفاهيم؛ لكي نصل إلى تصوُّر صحيح. وتصحيح المفاهيم هُنا يبدأ من الكشف عن الحمولة التي يرفعها لنا مصطلح معيَّن مثل مصطلح «بِدْعة».

إنّني أريد هنا أنْ أُميّز بين مفهوم «البِدْعة» ومفهوم «أهل البِدْعة».

ففي اللغة العربية، التي هي مدار الاستخدام في النصوص الدينية، لا تعني كلمة «البِدْعة» سوى الشيء المختَرَع الذي لا سابق له، فعندما يقول النصّ: اترك البِدْعة، فهذا يعني المطالبة بترك الأمور المختَرَعة في الدين، وليس للدين علاقةٌ بها.

ولكنّ كلمة «البِدْعة» تطوَّرت حمولتها المعنويّة عبر التاريخ الإسلامي في القرون الثلاثة الأولى وما بعد؛ إذ عندما ظهرت تيّارات عُرف عنها الابتداع في الدين جاء عنوان «أهل البِدَع»، فصار عنواناً سلبيّاً؛ لأنّه يعني أولئك الذين عُرفوا واشتهروا باختلاق المفاهيم التي ينسبونها للدين، والدين منها براء، دون أن يقع اختلاقهم هذا بطريق الخطأ عن طريق الاجتهاد (كما فصّلتُ هذه النقطة في كتابي المشار إليه آنفاً). فليس كلّ بِدْعة مفهومٌ تصفوي تاريخيّاً، بل «أهل البِدْعة» أو «أهل البِدَع» مفهومٌ تصفوي؛ لأنّه يوحي بأنّ السياق الفكري لهؤلاء هو سياقٌ مرفوض معوجٌّ غريب، لا أنّ هذه الفكرة عندهم بِدْعيّة أو تلك فحسب.

فكلمة «أهل البِدْعة» لا تعني وجود مذهب أو دين أو تيّار يشتمل في تفكيره على بِدْعةٍ ما، بل تعني أنّ هؤلاء يسيرون فكريّاً في سياق بِدْعِيّ عامّ، وينهجون نهج اختلاق البِدَع، لا عن طريق الأخطاء الاجتهاديّة.

ولو التفتنا إلى هذه القضيّة سنفهم أموراً كثيرة في النصوص حول موضوع البِدْعة وأهل البِدَع، ومن ثمّ فلا يكون الفقيه الفلاني مبتدِعاً وصاحب بِدْعة، من وجهة نظر الفقيه الآخر، بهذا المعنى السلبيّ للكلمة، بل إنّما يكون كذلك عندما يقع في سياق عامّ تتراكم فيه الأمور البِدْعِيّة في فكره، بحيث تكون البِدَع هي أساس فكره ونهجه وعمله.

تماماً كما نقول: «أهل الحديث»، فهذا لا يعني أنّ كلّ عالم يأخذ بالحديث هنا أو هناك هو من أهل الحديث، بل يعني تيّاراً خاصّاً صار الحديث هو الإطار العامّ لمنظومته الفكريّة والاجتهاديّة. وكذلك عندما نقول: سرقة، فهذا يعني أنّ الكلمة تطلق على حالة السرقة الواحدة، لكنْ عندما نقول: أهل السرقة والاختلاس، فهذا يعني أنّ هؤلاء عادتهم ومنهجهم هو ذلك. فيمكن التمييز بين الكلمة في حالتها العادية والكلمة بعد إضافة عنوان «أهل» أو «صاحب» أو «أصحاب» وما شابه ذلك إليها، كالتمييز بين اسم «شِرْك» في القرآن الكريم واسم الفاعل «مشرِك» عند بعض العلماء، فإنّ عند أهل الكتاب شِرْكاً، لكنَّهم ليسوا مشركين بنحو اسم الفاعل. ومثلُ هذا كثيرٌ في اللغة العربيّة والعُرفيّة وغيرها. ولستُ أريد الإطالة هنا في هذا الموضوع، بل أُحيله لدراسةٍ بحثيّة أخرى.

إذن أوّل مشاكل مفهوم البِدْعة في الممارسة الإسلاميّة هي مشكلة استخدام هذا المفهوم بطريقة تصفويّة عند كلّ اختلاف، وإخراجه عن حالته الصحّية. وعليه فلا يعني رفضنا استخدام تعابير أهل البِدَع على الآخرين اليوم ـ لكونها تعابير تصفويّة ـ أنّنا نريد سدّ باب التحسُّس من البِدْعة في الحياة الدينية، بل العكس هو الصحيح؛ ذلك أنّنا نريد فتح هذا الباب مهما كانت التسميات الممكنة له اليوم، وفي الوقت عينه الابتعاد عن الثقافة التصفويّة، التي تهدر حرمة الاجتهاد، وحقّ التفكير في الأمور الدينيّة.

نعم، التيارات التي تنهج نهج اختلاق البِدَع ـ لا بطريقةٍ خاطئة نتيجة اجتهاد ما، بل بطريقة ادّعائيّة ذاتيّة بلا دليل أو مستند ـ يمكن استخدام أسلوبٍ آخر معها، شرط أن يكون نافعاً في التأثير، على كلامٍ في هذه النقطة الأخيرة.

وخلاصة القول: إنّ تطبيق عنوان البِدْعة ومحاربتها على مقولةٍ ما لا يعني أنّ مَنْ يتبنّى هذه المقولة هو من أهل البِدَع ـ بالمعنى التصفوي للكلمة ـ بالضرورة. كما أنّ حرصنا على ممارسة الجميع حقّ الاجتهاد، وقلقنا من الاستخدام التصفوي لتعبير البِدْعة ومشتقّاتها، يدفعنا أيضاً إلى عدم استخدام هذه المصطلحات، لكنْ في الوقت عينه عدم غضِّ الطرف عن واقع ما نراه بِدْعاً في الدين، ولو لم يكن متَّبعوها أهل بِدْعة، بل اتَّبعوها عن حُسن نيّة واجتهادٍ خاطئ.

 

2ـ أزمة التحيُّز في مبدأ تحسُّس البِدْعة (بين الداخل المذهبي والخارج الإسلامي)

واستكمالاً للنقطة أعلاه، نجد تشوُّهاً آخر في استخدام مقولة البِدْعة أيضاً، وهو التطبيق المتحيِّز لهذا المفهوم. ففي الوقت الذي يجد فيه الأشعري مثلاً أنّه من السهل عنده توصيف فكرة معيَّنة قالها المعتزلي بأنَّها بدعةٌ، نراه يصعب عليه توصيف أهل ملَّته ومذهبه بهذه الصفة، فلا يقول عن قضيّةٍ ما عند أهل مذهبه بأنّها بِدْعةٌ، بل يراها اجتهاداً خاطئاً، يؤجَر صاحبُه عليه.

إنّ سبب هذا التطبيق المتحيِّز غير الموضوعي هو الخلطُ المتقدِّم المشار إليه. فنحن بِتْنا نتصوَّر أنّ افتراض بِدْعِيّة عادةٍ ما عند أهل مذهبنا سيعني ذلك أنّ أهل مذهبنا هم أصحاب بِدْعة، وعليه فمذهبي هو مذهب بِدْعة، وهذا يعني الطعن في علمائنا، وفي تاريخنا، وفي مذهبنا، مع أنّه لا يوجد أيُّ تلازم!!

فمن الممكن أن تكون عند المذهب الأشعري أو الإمامي أو السلفي أو الزيدي بِدْعةٌ ما دون أن نحسب أهل هذا المذهب وعلماءه أصحابَ بدعةٍ؛ لما قلناه قبل قليلٍ، من أنّ عنوان «أهل البِدَع» عنوان يُقصد منه السياق العامّ لهؤلاء، فهو سياق بِدْعِي، لا أنّ فكرةً ما عندهم هنا أو هناك هي بِدْعَة في الدين، ولا أساس لها فيه، وأنّها اختُلقت فيه عن حُسن نيّة أو سوئها.

وعليه، فلا دليل يمنع عن اعتبار فكرةٍ ما أو سلوكٍ ما أو عادةٍ ما في مذهب الحقّ ـ أيّاً يكن ـ بِدْعةً؛ لأنّه لا تناقض بين المفهومين. ولأنّهم أحسُّوا بالتناقض بين كونه المذهب الحقّ وبين وجود بعض البِدَع فيه صاروا ينفون دوماً عن مذهبهم وجود البِدَع، ويلصقونها بغيرهم، ممّا ولَّد حِسّاً نقديّاً إيجابيّاً من الغير، وتغاضياً عن الولادات المتواصلة للبِدْعة داخل المذهب الحقّ نفسه، وهي المشكلة الثانية التي واجهها المسلمون.

ومقتضى العدالة والإنصاف والحقّ والموضوعيّة هو أن يظلّ مبدأ «التحذُّر من البِدَع» ساري المفعول في مقابل كلِّ الأفكار والعادات والمسلكيّات، سواءٌ تلك التي تظهر في محيطي المذهبيّ الخاصّ أم تلك التي تنشأ في مناخ محيطٍ مذهبيّ أو طائفيّ أو فكريّ آخر مختلف عنّي.

وبهذه الطريقة أحمي الإسلام من البِدْعة عبر نقد الآخر، وأحمي مذهبي الخاصّ منها عبر نقد الذات، وعبر التحسُّس المشار إليه.

لهذا نحن نشجِّع على توصيف الأمور بصفاتها، ولو كانت في الإطار المذهبيّ الخاصّ، شرط عدم استخدام هذه التوصيفات بطريقةٍ تصفويّة لمذهبٍ ما أو لأهله، كما قلنا قبل قليلٍ، وإلاّ فلن نخرج سوى بمقولة عصمة مذهبي الخاصّ أو مذهبك الخاصّ من البِدْعة، وكأنّ يد العناية الإلهيّة حَمَتْ هذا المذهب من أن تمسَّه الأخطاء، فصرنا نقول بعصمة علمائه وأبنائه، وأنّهم لا يجتمعون على خطأ!

إنّ معذوريّة الآخر في تبنّيه فكرةً أو عادةً ما نراها بدعةً في الدين تحفظ له حرمته الشخصيّة أو الجماعيّة، لكنّها ـ أي المعذوريّة ـ لا تحفظ للبِدْعة التي يحملها عن حُسنِ نيّةٍ أيَّ حرمةٍ، ولا يكون انتماؤه المذهبيّ حامياً لبِدْعته من نقدنا ومواجهتنا بالطرق اللازمة، التي تراعي الحرمات كلّها والواجبات.

ثانياً: حالات تعطيل مبدأ (تحسُّس البدعة والتحذُّر منها)

هذه النقطة على صلةٍ بحالة الانحياز غير الموضوعي في قضيّة البِدْعة، والتي أشرنا إليها قبل قليل، وذلك أنّ من مشاكل تحسّس البِدْعة أنها استخدمت في جانب النقيصة أو احتمالها، وقلّما تستخدم في جانب الزيادة. فلو أنّ شخصاً قام بإضافة أمرٍ ما على الدين عن حُسن نيّةٍ وطيب نفسٍ فقد تجد الكثير منّا لا يعيشون مشكلةً معه؛ لأنّ هذه الإضافة تعزّز موقع الدين، وليس فيها ضررٌ، بينما لو قام شخص آخر بنقد أمرٍ ما، معتبِراً أنّه ليس من الدين، وكان هذا الأمر المنتَقَد عادةً شائعة، وجدنا أنّ المتديِّنين يثورون للدفاع عن هذه العادة، والبحث والتفتيش عن مبرِّر ولو بعيدٍ لها.

وهنا يتمّ تجميد مبدأ التحذُّر من البِدْعة بحجّة عناوين متعدّدة، مثل: رجاء المطلوبيّة، وحُسْن الاحتياط، وتقوية الدين في نفوس الناس، فإذا كان ذلك يقوّي الدين فلماذا نحاربه؟..

سيتبادر إلى ذهن القارئ الكريم أمرٌ على عجلةٍ هنا، وهو أنّ مفاهيم رجاء المطلوبيّة وحُسْن الاحتياط وغير ذلك ليست إضافةً على الدين حتّى تكون بدعةً، فمَنْ يقوم بالفعل الفلاني برجاء المطلوبيّة لا يجعل هذا الفعل من الدين، لكنّه يقوم به على أمل أن يكون من الدين، وأين هذا من البِدْعة؟!

هذا صحيحٌ، لكنْ ينبغي أن ننظر إلى ظاهرة البِدْعة في الحياة الدينيّة من ناحيتين:

من ناحية الثقافة النخبوية الواعية والمُدْرِكة لكون هذا الفعل ليس من الدين، وأنّ معنى رجاء المطلوبية أو حُسْن الاحتياط يستبطن التفكيك بين الشيء وبين نسبته إلى الدين بنحوٍ جازم.

ومن ناحية الثقافة الشعبيّة التي لا تعي كما تعي النخبة هذه الأمور، بل هي تتلقّى جيلاً بعد جيلٍ ثقافة أنّ هذا الفعل يقوم به المتديِّنون، وقد تحوّل إلى عادةٍ عامّة دينيّة، بحيث مَنْ ينظر من بعيد ينسب هذا الفعل للجوّ الديني.

إنّ جمهور الناس لا يميِّز في كثيرٍ من الأحيان بين هذه الأمور، وليس إلاّ العلماء وبعض النخبة والمتديِّنين المطَّلعين الذين يفكّكون هذه الأشياء عن بعضها. وفي هذه الحال لا أريد أن أدّعي بأنّنا تورّطنا في بدعةٍ، كلّ ما أريد قوله هو أنّ مبدأ التحذُّر من البدع يستدعي هنا مزيداً من النشاط التوعوي العامّ الذي يكشف بصراحةٍ ووضوح لجمهور المسلمين أنّ هذه الأفعال ليست من الدين، وإنّما نقوم بها بدافع رجاء المطلوبيّة..

هذا التوضيح لا يكفي وجودُه في كتابٍ هنا أو هناك، بل هو يحتاج إلى خلق ثقافةٍ عامّة تهتمّ بمثل هذه الأشياء وتكشف الأمور. ومع الأسف فنحن نسير في بعض الأحيان على العكس من هذه الثقافة، وقد نبتلي بمشكلة كتمان الدين عبر هذه العناوين. فتجد مثلاً أنّه عندما يُوَجَّه سؤالٌ عن مستحبٍّ معيَّن فإنّ المجيب لا يصرِّح بالقول بأنّه لم يثبت استحبابه، بل يكتفي بالقول بأنّه يؤتى به برجاء المطلوبيّة. والنخبة تعرف معنى هذه الجملة، لكنّ الوعي العامّ لا يعرف، مضافاً إلى أنّك بهذه الطريقة لم تكن واضحاً وصريحاً في عدم وجود مستحبّ ثابت في الدين اسمه كذا وكذا.

إنّ ما أقوله هنا يفرض عكس هذه السياسة في بيان الدين، فما أقوله يدعو إلى بيان الأشياء بصراحةٍ حتّى لو كان جمهور الناس يتلقّاها على أنّها من الدين، بل بالعكس، كلّما اشتدّ اعتقاد الجمهور بانتساب فعلٍ ما إلى الدين اشتدّت الحاجة لتقديم بياناتٍ صريحة بعدم ثبوت هذه النسبة، مع الحقّ الكامل في الدعوة لفكرة رجاء المطلوبيّة بعد ذلك.

ولعلّ ما يؤكِّد فكرتي هنا أنّه لو جاء شخصٌ ينفي استحباب هذا الفعل أو ذاك مثلاً قام أنصار (رجاء المطلوبيّة) بانتقاده، وأنا أسأل: لماذا يُنتقد هذا الإنسان ما دام يبيِّن الدين؟ ولماذا عندما يُنتقد لا يُقال بأنّ الحقَّ معه لكنَّ كلامه منقوص مثلاً؟ ولماذا عندما ينتقد تجد بعض الناقدين يردّ عليه بنصوص لبعض العلماء تثبت جواز الإتيان بالفعل برجاء المطلوبيّة؟ أليس هذا تمويهاً على الرأي العامّ؟ أليس هذا منافياً لمبادئ الصدق في بيان الدين والتحذُّر من البِدَع؟

لنحاول قليلاً أن نتصوَّر أنّنا في القرون الهجريّة الأولى، وأنّه ظهرت عادة التأمين أو التكتُّف في الصلاة مثلاً، وتمَّتْ نسبتها إلى الدين، فأهل البيت هنا أمام خيارينأحدهما: الإعلان عن محاربة هذه العادة بوصفها بِدْعة من وجهة نظرهم، وتحريمها وقطعها من أصولها؛ وثانيهما: تصحيح القصود فقط، بأنْ يقولوا للناس: لا تفعلوها بقصد الجزئيّة، أو بقصد الورود، بل افعلوها بقصدٍ آخر. إنّنا نلاحظ أنّ الذين كانوا يحاربون البِدَع في التاريخ الإسلامي الأوّل ـ ومنهم أهل البيت^ ـ كانوا يعتبرون أنّ وجود هذه الظواهر مرفوضٌ، ولم يعمدوا إلى الاشتغال على موضوع تصحيح القصود والنوايا؛ لأنّ البِدْعة لا ترتبط فقط بموضوع قصدك حال الفعل، بل ترتبط بسنّ عادةٍ دينيّة للناس تُتَلَقّى على أنّها أمرٌ ديني.

ولهذا يميِّز بعض الفقهاء بين مسألة البِدْعة ومسألة التشريع، ومنهم ـ على ما في بالي ـ العلاّمة النراقي صاحب مستند الشيعة. فالتشريع محرَّمٌ؛ لأنّك تقوم بنسبة فعلٍ إلى شرع الله، وهو من تشريعك أنْتَ، أو تفعل فعلاً بقصد أنّه من الله مع أنّ مشرِّعه هو أنْتَ، وليس الله، فهذه الحرمة تأتي على التشريع. والتشريع يمكن أن يكون حالةً فرديّة، فأنْتَ الآن في بيتك تقوم بإضافة فعلٍ على الصلاة من عندك بقصد أنّه من الدين، فهذا تشريعٌ محرَّم، حتّى لو لم تُعْلِم أحداً بذلك أبداً، وبمجرّد تغيير القصد ينتفي التشريع المحرَّم، ولكنّه ليس بِدْعةً من وجهة النظر هذه. إنّما البِدْعة هي قيام شخصٍ بسنّ عادةٍ للآخرين يتمّ تلقّيها على أنّها أمرٌ دينيّ، مع أنّها ليست كذلك، فصاحب البِدْعة هو ذاك الذي يختلق أمراً لا وجود له في الدين، ويُلقيه ليصير بذلك سنّةً دينيّة في المجتمع.

إذا قبلنا هذا التفكيك، ويستحقّ الوقوف عنده، وأذكر أنّ أستاذنا الجليل السيد محمود الهاشمي الشاهرودي(حفظه الله) كان يقبله تقريباً كما فهمتُه منه في حوارٍ شفويّ معه قبل سنواتٍ، وكان يختار التمييز بين مسألة التشريع ومسألة البِدْعة.. أقول: إذا قبلنا هذا التفكيك ستغدو قضيّة البِدْعة أكثر حساسيّةً؛ لأنّها لا تقف عند القصود الفرديّة فقط، بل ترتبط بخلق عادةٍ اجتماعيّة منتسبة إلى الدين في الوعي العامّ، حتّى لو لم تكن أنْتَ تعتقد بنسبتها إلى الدين أحياناً.

أتمنّى أن نتوقّف قليلاً عند هذا الأمر، ونعيد فتح باب دراسة موضوع البِدْعة من زاويةٍ اجتهادية معمَّقة؛ فربما نقترب من البِدْعة عندما نخلق مجتمعاً يتلقّى الكثير من العادات على أنّها أمور دينيّة، فيما هي لم تثبت في الشريعة، وإنّما تمّ التعاطي الاجتهادي معها من موقع رجاء المطلوبيّة أو حُسْن الاحتياط أو غير ذلك.

وفي هذا السياق تأتي قضيّة شمول الفعل أو العادة من قبل العمومات والمطلقات الشرعيّة. فكثيراً ما نجد عاداتٍ دينيّة راسخة لم يرِدْ فيها نصٌّ بالخصوص أبداً، كلّ ما في الأمر أنّ الفقهاء اعتمدوا فيها على العمومات. فمثلاً: عمومات إحياء أمر الدين تشمل هذا الفعل الذي لم ينصّ عليه الدين بعنوانه الخاصّ، وإنّما ابتكرناه نحن بعقولنا البشريّة.

في هذه الحال لا أريد أن أقول بأنّ هذه بِدْعةٌ. كلا، لكنّ المسألة المركزيّة هنا هو أنّ الكثيرين ـ ومنهم بعض العلماء ـ ينسبون هذه العادة إلى الدين لمجرّد كون العمومات تشملها. وهذا خطأٌ.

ولكي أوضِّح مقصودي أكثر، وقد تحدَّثْتُ عن هذا الأمر في مناسباتٍ سابقة، عليَّ أن أفكِّك بين كون هذا الفعل مستحبّاً من باب كونه مصداقاً لعنوانٍ عامّ مستحبّ، وبين كونه مستحبّاً لأنّ هذا الفعل بعنوانه الخاصّ مستحبّ. وعلى سبيل المثال: لو أخذتُ عنوان قراءة سورة الفاتحة للمَيْت، فقد يرى الفقيه أنّه لا يوجد شيءٌ في الدين اسمه قراءة سورة الفاتحة للمَيْت، وأنّ الفاتحة ليس لها خصوصيّةٌ في باب القراءة هنا، لكنْ يوجد شيءٌ اسمه قراءة القرآن عن روح المَيْت، فقراءةُ الفاتحة مستحبّة بما هي قراءةٌ للقرآن، لا بما هي قراءة للفاتحة، وهذا يعني أنّ الناس عندما يقومون بقراءة الفاتحة يجب توعيتهم إلى أنّ الفاتحة بعنوانها ليست مستحبّة كما يتخيّلون، بل المستحبّ هو العنوان القرآنيّ. وهذا ما قد يتطلَّب من العلماء عندما يكونون في مجالس الفاتحة الدعوة إلى قراءة سورة القَدْر مثلاً؛ بغية كسر هذه العادة، وكشف الأمر للناس، كما هي طريقة الأنبياء في كسر العادات. وعلى هذا المثال قِسْ بقيّة الأمثلة، وما أكثرها في حياتنا الدينيّة.

وأجد هنا من الضروري أن نميِّز بين مصداق العنوان المستحبّ والعنوان المستحبّ. فالعنوان المستحبّ نثبت له الاستحباب، أمّا المصداق الذي قد يتغيَّر من زمانٍ إلى آخر فهذا لا استحباب فيه بعنوانه، وإنّما يلحقه الاستحباب من حيث انطباق العنوان العامّ عليه، وقد يتغيَّر الانطباق بفعل الزمن والظروف والتقاليد. وبناءً على هذا فإنّ الكثير من العادات الدينيّة التي تُتلقَّى على أنّها مستحبّاتٌ، ولم يرِدْ فيها نصٌّ، يجب توضيح أمرها للناس على أنّها ليست من الدين، ولهذا لا يُعرف مَنْ فَعَلَها في العصر النبويّ، ولا في العصر اللاحق أو السابق، من قبل أحد من الأنبياء أو الأولياء أو الصحابة أو أهل البيت أو غيرهم.

هذا التمييز مهمٌّ جدّاً في الخطّة الثقافيّة الدينيّة الاستراتيجيّة، ويعبِّر عن تفعيل مبدأ التحذُّر من البِدَع وخلط المفاهيم في الوعي الجماهيريّ، وحماية الدين من الالتباسات. ومع الأسف فهي تمييزاتٌ مُهْمَلة لا اهتمام بها أبداً، مع أنّها لا تُلغي ما يقوم به الناس بالضرورة، بقدر ما تدفعهم لتمييز وعيهم الدينيّ، بحيث لا يُسقطون التشريع الدينيّ على فعلٍ إسقاطاً مباشراً أبديّاً، ويميِّزون بين العنوان المستحبّ إلهيّاً وبين التطبيق البشريّ لهذا العنوان.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينير قلوب الجميع لوعي قضايا البِدَع في المجتمعات الدينيّة، والتنبُّه لها أكثر فأكثر، وإدارة ملفّها باعتدالٍ يبتعد عن الإفراط والتفريط؛ حمايةً للدين وصيانة له عن التلاعب البشريّ به.

ودعوتي المتواضعة للجميع أن يعيدوا النظر في مسألة البِدْعة نظريّاً وعمليّاً، ويوقظوا في الوجدان النخبويّ والشعبيّ أهمّيّة الحَذَر من البِدَع المختَلَقة تحت ذرائع متعدِّدةٍ، وكذلك أهميّة الحَذَر من التورُّط في البِدَع دون تنبيه الناس على التمييز بين الأمور.

([1]) نشرت هذه المقالة على حلقتين في كلمة تحرير العددين المزدوجين: 26 ـ 29، من مجلة الاجتهاد والتجديد، في بيروت، من ربيع 2013 إلى شتاء 2014م.